نقولا ناصيف
عندما دُعيت القوة المتعددة الجنسية الى لبنان صيف 1982 رُسِمت لها مهمة محددة، هي تأمين الحماية للمنظمات الفلسطينية قادة ومسلحين أثناء جلائها عن لبنان الى دول أخرى تنفيذاً لاتفاق أبرمه فيليب حبيب، والحؤولً دون إقدام وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون على تنفيذ تهديده بقتل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. وبعد خروج المنظمات الفلسطينية المسلحة غادرت القوة المتعددة الجنسية لبنان في 31 آب، ثم عادت على جناح السرعة بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل ووقوع مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 أيلول، ورُسِمت لها حينذاك مهمة أخرى هي الفصل بين السكان المدنيين في المخيمات الفلسطينية وأحزاب «الحركة الوطنية» من جهة، والجيش الإسرائيلي الذي كان يحتل بيروت من جهة أخرى. ولزم الجنود الأميركيون والفرنسيون والإيطاليون دورهم هذا حتى 2 أيلول 1983 عندما بدأت «حرب الجبل» بعيد انسحاب الإسرائيليين من الجبل حتى نهر الأولي، فإذا بهم يدخلون في مهمة ثالثة لم يرسمها لهم اتفاق فيليب حبيب، هي حماية حكم الرئيس أمين الجميل وإبقاء المطار تحت سيطرة الحكومة المركزية، الى أن استهدف انفجاران مروعان في تشرين الأول 1983 مقرّي مشاة البحرية الأميركية والمظليين الفرنسيين وسقط في صفوفهما عشرات القتلى. والى الآن لا تغفر واشنطن لـ«حزب الله» إذ تحمّله مسؤولية تفجير مقر جنودها، ولا تزال تترقّب ساعة تصفية حساب ما حصل.
كانت حاملة الطائرات الأميركية «نيوجرزي» وطائرات أميركية قد شاركت في قصف مواقع مناوئة للجميل في الجبل في معركة كان يخوضها السوريون والفلسطينيون ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط ضد رئيس الجمهورية والجيش اللبناني و«القوات اللبنانية». بعد أقل من أربعة أشهر، أصبحت القوة المتعددة الجنسية في البحر، ثم عادت الى بلادها. ويروي فصول هذه المرحلة والتناوب بين مهمات القوة المتعددة الجنسية كتاب «الضوء الأصفر» للسفير عبدالله بوحبيب.
أما مغزى استعادة هذه الواقعة، فهو فحوى المحادثات التي أجريت في الأسابيع الأخيرة بين مسؤولين لبنانيين، سياسيين وأمنيين، وبين ضباط استخبارات دول مشاركة في القوة الدولية المعزّزة. في هذه المحادثات كان ضباط الإستخبارات الفرنسيون والألمان والإيطاليون والإسبان يركّزون على طرح أسئلة بغية الحصول على أجوبة شافية ومطمئنة تتصل بالأماكن التي ستنتشر فيها فرقهم العسكرية. وكانوا يسألون تحديداً: هل أن السكان معادون للجنود الدوليين؟ كيف ينبغي التعامل معهم؟ ما هي السبل الكفيلة بحماية أمن الجنود الدوليين في محيط لا يريدونه معادياً لهم؟ هل ثمّة مناطق معادية لوجود القوة الدولية؟
وعلى وفرة التطمينات التي كانوا يحصلون عليها من المسؤولين السياسيين والأمنيين، مشفوعة بتأكيدهم دور الجيش اللبناني في المنطقة المنزوعة السلاح جنوب نهر الليطاني، كان المسؤولون اللبنانيون يشدّدون أمام زوارهم ضباط الإستخبارات على مسألتين اعتبروهما حيويتين لإنجاح مهمة القوة الدولية المعزّزة في الجنوب:
الأولى، ألا تدخل القوة الدولية المعزّزة طرفاًَ في النزاع الداخلي بين الأفرقاء اللبنانيين المعنيين، أي قوى 14 آذار و«حزب الله».
والأخرى، ألا تدخل كذلك طرفاً في النزاع بين إسرائيل و«حزب الله».
وكان الجواب المشترك لضباط الإستخبارات الزوار أنهم يأتون الى لبنان لتنفيذ القرار 1701 ومساعدة الجيش اللبناني في بسط سيادة الدولة على أراضيها، ومراقبة المعابر والحدود والشاطىء للحؤول دون تهريب سلاح الى أي فريق لبناني أو غير لبناني.
ويعكس هذا الجانب من المحادثات وطأة قلق ضباط الإستخبارات الأجانب من احتمال تعرّض القوة الدولية المعزّزة للتجربة التي كانت قد خبرتها القوة المتعددة الجنسية عام 1982، وخصوصاً أن ثمة قاسماً مشتركاً بين القوتين هو أنهما حضرتا الى لبنان في ظل شبه إجماع لبناني بحثاً عن حل لمأزق تسبّب به اجتياحان إسرائيليان عامي 1982 و2006، إلا ان القوة المتعددة الجنسية سرعان ما اصطدمت بأحزاب «الحركة الوطنية» عندما أدخلت تعديلاً جوهرياً على مهمتها، هو مشاركتها في القتال الى جانب الجميل في الحرب التي شنتها عليه سوريا سنتذاك تحت شعار إسقاط اتفاق 17 أيار، وألّبت مسلحين فلسطينيين يأتمرون بها للإنضمام الى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بغية إسقاط حكم رئيس الجمهورية، قبل أن تنفجر بعد أشهر «انتفاضة 6 شباط» (1984) بقيادة رئيس حركة «أمل» نبيه بري، وينهار عندئذ كل ما كان قد رسمه الأميركيون والإسرائيليون للبنان.
ويستعيد مسؤولون لبنانيون تحدثوا الى ضباط استخبارات القوة الدولية المعززة نصائحهم لهم، بالتشديد على أن مهمة هذه القوة، على نحو ما ينصّ القرار 1701، هي الفصل بين إسرائيل و«حزب الله» ومساندة الجيش اللبناني في بسط سيطرته على الأراضي اللبنانية، وتحقيق الإستقرار عند الحدود مع إسرائيل: «لا أقل ولا أكثر». وكان ضباط الإستخبارات هؤلاء يعزون أمام المسؤولين اللبنانيين دوافع تأخر وصول جنود بلادهم الى لبنان الى رغبتهم في الحصول على الضمانات الكافية التي تجعل الجنود ينفذون مهمتهم بلا خوف على حياتهم، وتحت سقف موافقة الأفرقاء المعنيين بالنزاع العسكـــــــــري على ذلك.
وقد تكون سلسلة لقاءات عقدها الوفد الأمني الألماني في الأول من هذا الشهر مع مسؤولين لبنانيين خير معبّر عن الإتجاهات التي تريدها الدول الأوروبية المشاركة في القوة الدولية المعزّزة لتنفيذ مهمتها، فكان أن شدّدوا على أن دور هذه القوة منبثق من قرار مجلس الأمن من غير أن تعتبر نفسها طرفاً في السياسة الداخلية اللبنانية، وأن ثمة خلية أمنية ــــــ لوجستية ألمانية من بضع عشرات من الرجال ستقيم طويلاً في السفارة في بيروت لجمع المعلومات الضرورية لمهمة الجنود ومراقبة انتشارهم، وبناء علاقات محايدة مع السكان الى أن تنتهي المهمة. وهذه الحال تصح على كل الدول المشاركة في القوة الدولية.
والواقع أن هذه المعطيات لا تنفصل عن الخلاف الحاد الناشب بين فريق 14 آذار و«حزب الله»، الذاهب الى مزيد من التشنّــــج والجـــــدل بـــــين طرفين يتــــــــــبادلان اتهامات مثيرة:
ـــــ يقول فريق 14 آذار أن على خصمه أن يتقبّل كل ما ينص عليه القرار 1701 عسكرياً وسياسياً، والذي يؤول ــــــ وإن هو لا يجهر بذلك ـــــــ الى إنهاء كامل وقاطع لدور سلاح الحزب، ومن ثم ضرورة تسليم ترسانته الى الجيش اللبناني، والاندماج جدياً في الدولة اللبنانية.
ــــــ ويقول «حزب الله» أن «البهورة» التي تقوم بها القوة الدولية في الجنوب والبحر ترمي الى شدّ عضلات فريق 14 آذار، وحمله على عدم تقديم تنازلات سياسية في أي تسوية سياسية داخلية مع الطرف الآخر.