strong>أنت في الطابق الثاني من سرايا جبيل. تجتاز باباً حديدياً كبيراً فترى على يسارك ويمينك 16 خزانة حديدية مهترئة ومحكمة الإقفال، ملفّات وأوراق «حقوقية» تقبع في كراتين متعدّدة الأشكال والألوان منها لحليب «دانو» ومنها لماركات عالميّة أو حتّى لماركات فقدت من السوق منذ زمن بعيد.
جوانا عازار

يشدّ نظرك شعار علّق على إحدى الخزانات: «كلّ إكراميّة، من أي نوع كانت ومهما كانت، ممنوعة وتعرّض فريقيها للملاحقة دون شفقة كما الرشوة، يبلّغ الرئيس الأول عن أي تجاوز». تكمل رحلتك وتنعطف الى اليمين فتفاجأ بـ5 خزانات أخرى مطلّة على غرفة بابها مشرّع إكراماً للزائرين، تفوح منها رائحة قويّة: إنّه الحمام الذي يظهر جلياً للعيان مع مغسلتين منفصلتين.
المغسلتان تجالسان في الغرفة نفسها مكنسة عادية وأخرى هوائيّة، «ممسحة»، «شفاطة»، مدفأتين على الغاز، العديد من الزجاجات الفارغة. في المقابل، لوح خشبي تعلّق عليه أوراق الدعاوى، سندات التبليغ، كتب التبليغ، مذكرات الجلب، يركن تحته صحن فخاري فيه بقايا سجائر.
تتقدّم قليلاً فترى ثلاث غرف «باطونيّة» وغرفتين من الزجاج، إنّها مكاتب الموظّفين. يبلغ عدد الموظّفين في محكمة جبيل 11، يتوزّعون بين رؤساء كتّاب، مباشرين، حاجب، رئيسي أقلام ومأمور تنفيذ.
في الغرفة الأولى 5 مكاتب موزّعة بين الخشبيّة منها والحديديّة، والمشهد يتكرّر من دون كلل: خزانات وملفات وأوراق تزيّن المكان. وفي نهاية الغرفة وراء إحدى الخزانات «مطبخ» صغير استحدثه الموظّفون، فيه مستلزمات فنجان القهوة من بنّ وسكر وركوة.
غرفتا مأمور التنفيذ ورئيس قلم المحكمة لا تختلفان كثيراً عن الغرفة الأولى: المزيد والمزيد من الملفّات والخزانات.
في الواقع، إنّ محكمة جبيل شأنها شأن العديد من المحاكم لم تصلها بعد تكنولوجيا العالم المعاصر من مكننة وكمبيوترات وأنظمة أرشيف متطوّرة. وما زال العمل فيها يدوياً، والملفات كثيرة والمكان ضيّق.
المكيّفات في الغرف لا تعمل وأضحت فقط للديكور ويستعاض منها بالمراوح الهوائيّة. أمّا غرفة الدعاوى العامّة وغرفة المباشرين فهما من الزجاج وأشبه بحاضنة الأطفال حديثي الولادة. وقرب الشرفة المزيد من الخزانات مع خزنة في الزاوية، أمّا الشرفة فتستقبل بدورها مكاتب وكراسي قديمة لم تعد صالحة للاستعمال منذ زمن بعيد.
غرفتان مخصّصتان للقاضيين: القاضي جاد معلوف ناظر في القضايا المدنيّة والقاضي الياس ريشا ناظر في القضايا الجزائية والقضايا العجلة. أحد المحامين يختصر الوضع قائلاً: «المركز يوحي كلّ شيء إلا أنّه محكمة. المكان ضيّق جدّاً وضغط الملفات كبير، لا يوجد مخزن للملفات، والدعاوى تؤجل كثيراً. يعاني المحامون عدم توافر مواقف للسيّارات والقاعة التي تعقد فيها جلسات المحاكمة تقع في الطابق الأرضي وهي غير آمنة إذ تطلّ نوافذها على الطريق العام، وتغيب في محيطها الاحتياطات الأمنيّة. إضافة الى أنّ المشكلة الأبرز تبقى في غياب المكننة ما يؤثر سلباً على سير العدالة في لبنان». وختم المحامي مبدياً أمله أن يكون عدد القضاة 3 بدل 2 وأن تحظى مدينة جبيل بمحكمة تليق بموقعها التاريخي والأثري.
«مشروع تأهيل وتجهيز مبنى سرايا جبيل ومحكمة الدرجة الأولى فيها» رفع في 17 آذار 2001 الى رئيس مجلس الوزراء وقدّم الى كلّ المراجع الحكوميّة والادارية والقضائية بمن فيهم وزيرا العدل سمير الجسر وبهيج طبارة، اضافة الى مجلس القضاء الأعلى والرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في جبل لبنان آنذاك. وعام 2006 وبعد مرور 5 سنوات على تقديم المشروع، التأهيل بقي حبراً على ورق. يحمل المشروع عنوان: «محكمة الدرجة الأولى في جبيل وتأهيل سرايا جبيل». يبدأ المشروع في عرض الوضع العام، وأبرز ما ورد فيه: «مدينة جبيل، عاصمة قضاء جبيل، تئنّ من تردّي حالة محكمة الدرجة الأولى فيها ومن حالة مبنى سرايا جبيل المحتاج بكامله الى التأهيل والتنظيم وبناء سور».
مدينة الأبجديّة والسياحة والشهرة العالمية التاريخية موجوعة من وضعها هذا وتتساءل كيف يلتفت إليها العالم عبر منظّمة الأونيسكو فيختارها مقرّاً لمركزه العالمي لعلوم الانسان والانماء بينما محكمة العدل والقضاء فيها كناية عن بضع غرف حقيرة أضيف إليها بعض علب الزجاج والألومينيوم في الممرات الضيّقة ضمن مبنى سرايا متعطّش كله الى التأهيل وبناء سور، ويأبى المرء أن يستعملها مزرعة دجاج.
نتساءل فعلاً كيف أنّ شقة المحكمة دار القضاء والعدل في جبيل بهذه الحالة وكيف أنّ الغرفة المستعملة قاعة محاكمة في الطبقة الأرضية المحاطة شبابيكها بأكوام صناديق الخضر الفارغة والنفايات والمكشوفة لمحيطها (لا يوجد سور)، والمنتفية عنها النظافة والوقار والاحترام والحماية، متروكة على هذه الحالة أيضاً.
يطالب المشروع الدولة بتأهيل مبنى سرايا جبيل وتخصيص الطبقة الأولى منه بالكامل لمحكمة الدرجة الأولى، والثانية للقائمقامية، مع إعادة النظر في توزيع سائر الدوائر والمصالح. اضافة الى تخصيص موقع لكافيتريا كبيرة تستثمر وتؤجر في المزاد العلني دورياً، ويطالب المشروع بتركيب مصعدين وسقف قرميد مع قاعدة هوائيات، واحاطة السرايا بسور حجري وحديد شبيه بسور قصر العدل في بيروت، وتخصيص مكان لحارس دركي على مدخليها. ويقترح المشروع تخصيص الطبقة الأرضية بالكامل لقوى الأمن والطبقة الأولى لمحكمة الدرجة الأولى على الشكل الآتي: «المدخل بهو كبير مع كونتوار للهاتف والاستعلامات، مع مقاعد خشبية للانتظار. جناح (غربي) لمحكمة الدرجة الأولى الجزائية: مكتب للقاضي وقاعة محاكمة جزائية متّصلة به حسب الأصول المتبعة وغرف للقلم. جناح (شرقي) لمحكمة الدرجة الأولى المدنية: مكتب للقاضي وقاعة محاكمة مدنية متّصلة به حسب الأصول المتبعة وغرف للقلم. جناح داخلي تابع لقلم المحكمة المدنيّة مع دائرة تنفيذ. تخصيص قاعة فسيحة تكون داراً لنقابة المحامين في أحد الجناحين الغربي أو الشرقي». ويقترح المشروع تخصيص الطبقة الثانية من السرايا الى قائمقامية جبيل ودوائر إدارية أخرى، والطبقة الثالثة لأمن الدولة وللأمن العام.
المشروع ظلّ حبراً على ورق ووضع المحكمة الى مزيد من التدهور والعدل الذي أساسه الملك لا يملك مقرّاً يليق به.