إبراهيم الأمين
يخشى وليد جنبلاط تعرض قوات الأمم المتحدة في الجنوب لعملية عسكرية كبيرة من شأنها تعطيل مهمتها، ولا ينسى أن يبدي خشيته أيضاً من تعرض شخصية أو أكثر لعملية اغتيال. لكنه، وإن كان يعرف تماماً أن الأمر لا يتصل بعملية أمنية ترتبط بعمل مافيا على رغم نشاط الأخيرة المتزايد في بلد مثل لبنان، لا يقدم على مقاربة سياسية مختلفة للوضع الداخلي. وحاله مثل حال فريق الأكثرية المسيطر على الحكم وعلى الأجهزة الأساسية فيه. والاستراتيجية المعتمدة من هؤلاء تقول: إن إسرائيل عدو وإن سوريا هي عدو أيضاًَ، وإن حزب الله يشكل خطراً على الدولة، وإن القاعدة تشكل خطراً على الأمن والاستقرار في البلاد.
وفي كل مناسبة يخرج هؤلاء ليعلنوا أن هناك من يريد قتلهم وإبعادهم عن السلطة بالقوة، ثم يستنفرون الجهات الداخلية كلها ضدهم، من التيار الوطني الحر إلى تيار “المردة” والمعارضين لهم في صيدا وطرابلس وبيروت والبقاع. ثم يديرون نقاشاً تفجيرياً مع الجماعة الإسلامية ولا يقدرون على إقناع البطريرك الماروني نصر الله صفير بمدّهم بحقنة جديدة من المقوّيات غير المتوافرة عنده أصلاً.
كيف يمكن بناء استراتيجية سياسية وأمنية على قاعدة معاداة جميع من حولك، ثم يجري فتح البلاد أمام كل أجهزة استخبارات العالم، من الأردن ومصر والسعودية حيث الحسابات المفتوحة مع الجماعات الإسلامية. ثم تعمل الجهات نفسها على الاستعانة بالاستخبارات الفرنسية والإسبانية والإيطالية، وأخيراً الألمانية، من أجل “تحسين القدرات الأمنية للأجهزة اللبنانية” الأمر الذي يتم على قاعدة “معلومات مقابل خدمات” وهي معلومات بدأت تظهر معالمها على شكل ملفات تجسس تطال كل شيء، من المقاومة وحزب الله إلى الجماعات الأصولية والوضع السوري والإيراني في البلاد إضافة إلى أعمال التجسس على مواطني هذه الدول المقيمين في لبنان أو المترددين عليه. وفجأة تقرر الحكومة عندنا الاستعانة بالقوات التركية وأجهزة الأمن الخاصة بها، غير آبهة بإمكان أن يفتح ذلك الباب أمام توتّرات، تبدو شكلية ولكنها قابلة للتحول إلى مشاكل خطيرة مع الأرمن ومع المجموعات الكردية المعارضة للحكومة التركية. ثم يصار إلى طلب عون مباشر من باكستان من دون الانتباه إلى ما يدور بين تنظيم القاعدة والحكومة الباكستانية... وفوق كل ذلك، تربط البلاد وكل هذه الأجهزة بالمركز المتطور للاستخبارات الأميركية المعزز في لبنان، والذي يعمل وفق أجندة إسرائيلية صافية مئة في المئة. ويصل الأمر إلى حد تبادل المعلومات معه في صورة دورية. ويجري الآن التدقيق في معلومات خطرة عن تلقي السفارة الأميركية في بيروت تقارير خلال العدوان الإسرائيلي مصدرها جهة أمنية رسمية عن معلومات مخبريها والعاملين فيها في المناطق التي كانت عرضة للقصف الإسرائيلي.
ووفق هذه الاستراتيجية المفتوحة على مناخات غير محسوبة بدقة، أو محسوبة على طريقة “أنا أو لا أحد”، فإن البلاد تدخل مرحلة خطرة، ليس فيها من “كبير” يلمّ الجميع ويفرض عليهم الجلوس إلى طاولة حوار عاقل، محسوب بدقة، وواقعي يأخذ في الاعتبار كل ما حصل، ويدرس كل ما قد يحصل. وليس هناك من طرف إقليمي قادر على القيام بالمهمة نفسها، ولا سيما أن السعودية ومصر والأردن تدفع بقوة، وبخطوات غير مفهومة، فريق الأكثرية ولا سيما جماعة وليد جنبلاط وتيار “المستقبل” نحو مواقف وخطوات يعكسها “توتر” رئيــــس الــــحـــــكومة فـــــؤاد الســـــنيورة واســـــتــــعجاله “تثبيت الوضع الأمني والسياسي في الجنوب على نتائج لا صلة لها بنتائج الحرب ولا بالقرار الدولي نفسه”.
ويذهب هذا الفريق بعيداً في مخالفة الوقائع من خلال التصرف بأن القوات الدولية التي تتكاثر الآن جنوباً وتنتشر “سياحياً” في العمق اللبناني وكأنها قوة تعمل تحت إمرتهم ومن أجل خدمة مشروعهم السياسي الداخلي. وهو أمر كان مدار نقاش في الأيام الأخيرة خلال لقاء جمع العماد ميشال عون مع المنسق الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا الذي أكد أن “اليونيفيل ليست في خدمة طرف داخلي”، وسمع في المقابل تنبيهاً ونصيحة بأن “ابتعاد هذه القوة عن مهمتها الأساسية ومحاولة القيام بدور داخلي من خلال دعم طرف في وجه آخر سيؤذي مهمة هــــذه الــــقوة ويجعلها عرضة للانتقاد”.
وعلى رغم أن النقاش في هذا الجانب لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن الأمر بدأ يتحول الى ملف حساس في حد ذاته مع ظهور رغبة فرنسية وألمانية بالتفلّت من ضوابط القرار الدولي والاتجاه صوب استقلالية من النوع الذي يهدد وجود هذه القوة ويعرضها لمخاطر كبيرة للغاية، وخصوصاً أن مجموعات كثيرة من القوات الفرنسية بدأت بالتجول في مناطق لبنانية تقع خارج نطاق الانتشار المنصوص عليه في القرار الدولي. وثمة معلومات عن قيام مجموعات أمنية فرنسية وألمانية وأميركية بالتحرك في مناطق عدة تحت عنوان أنها من القوة الدولية، علماً أن سيارات عسكرية شوهدت أخيراً في أكثر من منطقة، وهي لا ترفع علم الأمم المتحدة، ويتصرف أفرادها على أنهم قوة مستقلة، وكأنهم لا يعرفون أي شيء عن لبنان وعن وضعه الداخلي المعقد. وحتى الضمانات التي حصل عليها الفرنسيون من حزب الله مباشرة، والتي حرص الرئيس جاك شيراك على أخذها من السيد حسن نصر الله تحديداً، فهي غير كافية في ظل انكشاف لبنان الراهن. ويعرف الجميع أن منطقة الجنوب التي كانت تخضع في شكل أو آخر لسيطرة مقاتلي حزب الله ومراقبتهم ستكون أمام واقع جديد.
ومن السذاجة التصرف أو الاعتقاد بأن في الجنوب اليوم من يتحمل هذه المسؤولية. والقول إن في مقدور الجيش اللبناني والقوات الدولية إنجاز الأمر وتوفير استقرار من شأنه عدم خلق توترات على الحدود مع اسرائيل، فيه من التبسيط الذي لا يقبله عقل، ولا سيما أن هذه الدول، كما الخبراء في لبنان، تراقب وتعرف ما الذي يجري الآن في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم.
يبدو أن لبنان دخل مع فريق الأكثرية مرحلة هي الأخطر. وإذا لم يسرع القيّمون في تحقيق تغيير سياسي من خلال إطاحة الحكومة الراهنة وخلق توازن جديد يردع جماعة السفارات الأجنبية، فإن البلاد مقبلة على موجة من التوتر ستصيب كل شيء، ولن تكون إسرائيل والدوليون معها خارج دائرة من سيدفع الثمن.