يُعتبر لبنان واحداً من ثمانية بلدان في العالم لا تُجرى فيها إحصاءات سكانية. الأسباب، كالعادة، سياسية، تدرجها الحكومة تحت عنوان «عدم إثارة حساسيات طائفية». حتى أرقام المهاجرين من لبنان، تدخل ضمن المحرّمات التي لا يجوز للمواطن الاطلاع عليها.
غسّان سعود

خلال الحرب الأخيرة، أصدرت المديريّة العامة للأمن العام قرابة سبعمئة جواز سفر يومياً. وعاد العدد لينخفض بعد انتهاء العدوان إلى قرابة ثلاثمئة جواز يومياً، لكنّه بقي أعلى من المعدّل اليومي لإصدار الجوازات قبل الحرب، الذي يبلغ 180 جواز سفر.
وبحسب أرقام المديرية العامة، غادر لبنان خلال العدوان الأخير قرابة 250 ألف مواطن، إضافة إلى 85 ألف أجنبي، و25 ألف عربي. أما عدد العائدين فقارب ستين ألفاً. وأشار مصدر موثوق به في وزارة الخارجية، إلى تصديق «دائرة المصادقات» في وزارة الخارجية على قرابة 1500 معاملة يومياً، في الفترة الممتدّة ما بين 15 تموز و15 آب. ويعني ذلك تسهيل سفر 48 ألف لبناني، غالبيّتهم من الشباب، يتوزّعون طائفياً على النحو الآتي: المسيحيّون بنسبة 40%، الشيعة 30%، السنة 20%، الدروز 5%، إضافة إلى 5% من بقية الطوائف.
وتثير هذه الأرقام، المتناقضة، ذعر المسيحيين، وخصوصاً القلقين منهم على «الوجود المسيحي». إلا أنّ الباحث عبدو سعد يرى أنّ هاجس المسيحيّين من الهجرة غير مبرر، ونظرية هجرة المسيحيين من لبنان غير دقيقة.
ولتدعيم وجهة نظره، يعود سعد إلى إحصاءات الانتخابات النيابية الأخيرة. ويقدّم مقارنة بين نسب المقترعين حسب الأقضية بين دورتي 1972 و2005، تُظهر أن النتائج في كسروان التي بلغت 62،5% عام 1972، لم تتبدّل عام 2005. وفي المتن، ارتفعت النسبة من 50،9% إلى 51،2%. وفي مقابل ثبات أو ارتفاع نسبة المقترعين في هذين القضاءين ذات الغالبية المسيحية، يُلاحظ العكس في الأقضية ذات الغالبية الإسلامية. فنسبة المقترعين في قضاء الزهراني انخفضت من 71% إلى 52،9%، وفي بنت جبيل من 62% إلى 42%، وفي الضنية من 70% إلى 55%، وفي صيدا من 71% إلى 42،6%.
وخلافاً لما هو شائع، يرى سعد أنّ الأكثرية الساحقة من المسجّلين على لوائح الشطب والمقيمين خارج لبنان هم من المسلمين. ويلفت إلى أن المسيحيين هاجروا بشكل خاص من عاليه والشوف والجنوب، لكن ليس بالضرورة إلى خارج لبنان.
يبدو مشهد اللبنانيين أمام السفارات موافقاً لرؤية سعد. فانتشار الزي الشرعي أمام مدخل السفارتين الكندية والفرنسية يظهر أن المسلمين الراغبين بالسفر لا يقلّون عن المسيحيين. واستناداً إلى مصادر في السفارة الكندية، غادر لبنان منذ بداية الحرب الأخيرة قرابة عشرين ألف لبناني من أصل كندي، أكثر من نصفهم من الطائفة الشيعية.
ولا يختلف المشهد في المطار، وخصوصاً أن معظم الرحلات تتجه اليوم إلى الدول العربية والأفريقية التي تجذب كثيراً من المسلمين وقليلاً من المسيحيين، كما أوضح أحد المسؤولين في أمن المطار.
ويبدو بوضوح في بهو المطار أن ثمة نوعين من الهجرة: شبابية وعائلية. ينقسم الشباب إلى مهاجرين لمتابعة علمهم، ومتخرّجين عاطلين من العمل يهاجرون أملاً في إيجاد وظيفة. أمّا العائلات المهاجرة فمعظمها تلتحق بأقرباء سبق أن اختبروا الاغتراب. وهي تهاجر لأسباب سياسية وأمنية، والأهم، كما اتضح من الحديث إليهم، الرغبة في الحصول على تسهيلات طبية وتعليمية وتقاعدية تقدّمها الدول الأجنبية. ويُشار إلى أن السفارات الأجنبية لم تفتح باب الهجرة أمام اللبنانيين، خلافاً للعادة عند الحروب. وعمّمت سفارات الدول المنضوية في الاتحاد الأوروبي إعلاناً بأن عملها يقتصر على منح تأشيرات السفر السياحية أو تأشيرات العمل وفق شروط صارمة.
وتقول غيتا حوراني، مديرة مركز دراسات الانتشار اللبناني في جامعة سيدة اللويزة، إن الحرب الأخيرة ستشكل نقطة تحوّل مهمة في تاريخ المجتمع اللبناني، وخصوصاً أنها ستزيد من هجرة أبناء الطائفتين الشيعية والمسيحية. تهاجر الأولى لتعويض الخسائر المادية الضخمة، والثانية لشعورها بالإحباط. أمّا التوجهات الجغرافية لهذه الهجرة فهي الولايات المتحدة الأميركية، كندا، أوستراليا، البرازيل، فرنسا، الدانمارك، ألمانيا، بلجيكا، إيطاليا، نيجيريا، ودول الخليج.
وكشفت حوراني عن تأكيد مراجع رسمية في قبرص أن عدد الذين دخلوا الأراضي القبرصية قارب خمسين ألفاً. ولا يشمل هذا العدد كل المرحّلين، إذ إن السفارات كانت تُقِلّ بعض المرحّلين مباشرة الى قواعدها البحرية والجوية، ومنها تسفّرهم الى بلادهم. السفارة الأميركية وحدها رحّلت، وفقاً لحوراني، خمسة عشر ألفاً، معظمهم لبنانيون يحملون الجنسية الأميركية.
لكنّ جان عبود، نقيب وكالات السياحة والسفر، يوضح أنّ سوق مبيعات بيروت لتأشيرات السفر بلغ 45 مليون دولار شهرياً قبل الحرب. لكنّها لم تتخطَّ سبعة ملايين بين 15 آب و15 أيلول. وكشف عبّود أن شركة طيران الشرق الأوسط نقلت خمسين ألف راكب إلى الخارج من طريق سوريا. وحولت 120 ألف راكب إلى شركات أخرى. وقال إن عدد الذين غادروا عبر قبرص أو الشام لا يتخطّى 300 ألف راكب. ووفقاً لأمين سر شركة «لي أوتول» للسياحة والسفر توفيق كيروز، تراجع الطلب لكن الضغط ازداد بسبب قلة عدد الطائرات.
في ظلّ الإهمال الرسمي لمسألة الهجرة، يستمرّ الاستثمار السياسي لها. فريق يحمّل «تيار المستقبل» مسؤولية مغادرة اللبنانيين لوطنهم بسبب الأزمة الاقتصادية، وفريق آخر يحمّل «حزب الله» مسؤوليّة إشعال الحرب.



المسيحيّون غادروا على دفعات
منذ عام 1975، شهد المجتمع المسيحي ثلاث هجرات أساسية. جرت الأولى خلال «حرب السنتين»، وشملت الساكنين قرب خطوط التماس، ومسيحيي الأطراف وأبناء الدامور. وقيل يومها إن ثمة خطة أميركية لترحيل المسيحيين. الهجرة الثانية حدثت إثر حرب الجبل، وتهجير المسيحيين من الشوف وعاليه وشرق صيدا. أمّا الهجرة الثالثة فكانت بين عامي 1986 و2001، وكان سببها الرئيسي اقتصادياً، وقد أوقفت بضغط مباشر من البطريركية المارونية على سفارات الدول الغربية. ورأى مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان في اجتماعه الأخير أن «الهجرة ليست ظاهرة حتمية، بل هي ناتجة من سياسات اقتصادية واجتماعية خاطئة أو من ظروف استثنائية مثل الحروب أو الفتن الداخلية».



تهريب البشر
وفقًا لتقرير صادر عام 2004 عن وزارة الخارجية الأميركية، تنشط «مكاتب تهريب البشر في لبنان»، ويتقاضى المهرّبون خمسة آلاف دولار على الشخص الواحد. ينتقل اللاجئون إلى دمشق فتركيا ثم رومانيا، وبعدها تشيكيا، ومنها إلى المانيا. ويروي بعض الشبان الراغبين في الهجرة أنّ ثمة من يؤمّن تأشيرة سفر إلى المكسيك لقاء 14000 دولار، ومن هناك إلى الولايات المتحدة لقاء أربعة آلاف دولار. وثمة مكاتب شرعية في بيروت تتقاضى دفعات مالية مسبقة لتأمين تأشيرات للهجرة، لكنها تتأخر في إنجاز وعودها، ما يدفع كثيرين لطلب إيقاف المعاملة، فيخسرون أموالهم.



الإعمار يهجّر مليون لبناني
تشير نتائج إدارة الإحصاء المركزي إلى أن مليون شخص تقريباً غادر لبنان بين عام 1992 وحتى بداية عام 2000. ووفقًا لتقديرات التقرير الإقليمي لهجرة العمل العربية الصادر عن جامعة الدول العربية في آذار 2006، اتجه بين عامي 1992 و2001 نحو 66 ألف لبناني إلى أوروبا وأميركا الشمالية، و5300 إلى كندا. وتشير إحصاءات مجلس الإنماء والإعمار إلى هجرة 16% من أبناء البقاع، و6,19 % من أبناء بيروت، و2،22 من أبناء الشمال، و3،19 من أبناء الجنوب، و3،17 من أبناء الجبل. وتبلغ نسبة الجامعيين 32% من المهاجرين، فيما لا تتعدّى نسبتهم بين المقيمين الـ4،22%. أمــــا نســــبة الــــتــــقـــــنيين بين المــــهاجرين فهي 15%، مــــقــــابل 6،2% بين المـــــقـــــيمين. ويـــفــــوق عـــــدد المــــهاجرين الــــذكور عــــدد الإنـــاث، فــــيما يفــــوق عـــــدد الإناث المقيمات عدد الذكور المقيمين.
وقدّرت وزارة المالية متوسط التحويلات المالية من الخارج إلى لبنان عام 2004 بثلاثة مليارات دولار، أي ما يزيد عن حجم الصادرات اللبنانية من السلع والخدمات بقرابة مليار ونصف مليار دولار. وتُعتبر نسبة التحويلات إلى الناتج المحلي اللبناني الأعلى في العالم، إذ بلغ متوسطها بين عامي 1970 – 1998، 35%.