بعد إلقاء الضوء على أوضاع قصور العدل خارج بيروت وما تعانيهمن عيوب ومشاكل، تلامس “الأخبار” اليوم واقع قصر العدل في بيروت
الذي يبدو انه “الصرح المثالي” مقارنة بقصور العدل الأخرى


يقع قصر عدل بيروت على عقار مساحته 35 ألف متر مربع. غير ان مساحته الواسعة هذه لا تزال ضيقة نسبة الى عدد الدعاوى التي ترده وازدياد عدد القضاة... آلاف القضايا العالقة والمتراكمة منذ سنوات، بعضها مات أصحابها قبل ان يفصل القضاء في ملفاتهم.
من السهل الملاحظة ان حالة قصر بيروت أفضل بكثير من “أخواته” التي تقع في سائر المناطق اللبنانية والتي تعاني وضعاً مزرياً، لدرجة كثرت التمنيات لو ان كل المحاكم اللبنانية مماثلة له. غير ان المبنى الذي مضى على بنائه أربعون سنة وأُخضع للتأهيل بعد الحرب الأهلية، يحتاج الآن الى ورشة واسعة تعيد إليه رونقه من الداخل والخارجراحة الموظف مؤمنة بدءاً من توفير الموقف لسيارته وصولاً الى المكتب اللائق والمريح. واذا كانت هذه “الرفاهية”، التي تفتقر إليها مقار مؤسسات رسمية عديدة، متوافرة للموظفين فكيف بالقاضي الذي يشعر بهذا الاهتمام الذي تزايد سنة بعد سنة إثر اعادة تأهيل هذا المبنى وتجهيزه وإعادة ترميمه من الخارج والداخل منذ عام 1995 والذي ترافق مع تحسين تدريجي للوضع المادي والمعنوي للقضاة.
غير انه سرعان ما يتبادر الى ذهن المواطن السؤال عن سبب الاهتمام الزائد بقصر عدل بيروت دون سواه؟ وهل هذه الحال ناتجة من انعدام الإنماء المتوازن بين العاصمة والمناطق الأخرى أسوة بالمشاريع الحيوية والخدماتية؟ الأجوبة عديدة وأهمها ان هذا القصر ربما تصح عليه تسمية “العدلية المركزية” وفيه دون سواه محاكم التمييز التي تتوزع على تسع غرف وفيها تصب كل الملفات التي صدرت فيها أحكام استئناف وجنايات في كل لبنان. وتقع فيه أيضاً النيابة العامة التمييزية والتفتيش القضائي والنيابة العامة المالية وهيئة مكتب مجلس شورى الدولة، والمجلس العدلي ومحاكماته التي لا تنعقد إلا في رحابه.
ولعل المحاكمات الأشهر في تاريخ لبنان الحديث خير حافز على الاهتمام بهذا المقر. ولا تنسى غالبية اللبنانيين عشرات المحاكمات التاريخية التي شهدها بعد الحرب الأهلية والتي بدأت بمحاكمة الدكتور سمير جعجع وكوادر القوات اللبنانية في جرائم اغتيال داني شمعون وتفجير كنسية سيدة النجاة واغتيال الرئيس رشيد كرامي والياس الزايك ومحاولة اغتيال الوزير السابق ميشال المر، ومجموعات أصولية اسلامية في ملفات عديدة أبرزها اغتيال الرئيس السابق لجمعية المشاريع الخيرية الاسلامية الشيخ نزار الحلبي، ومحاولة اغتيال مفتي طرابلس طه الصابونجي، وموقوفو أحداث الضنية، والمحاكمة الشهيرة لسبعة عناصر من اعضاء الجيش الاحمر الياباني.
ومن المفيد التذكير أيضاً بأن قصر العدل في بيروت كان محط أنظار اللبنانيين لسنتين وتحديداً ما بين عامي 1998 و2000 عندما فتح ما سمي “ملفات الفساد” في بداية عهد الرئيس إميل لحود وجرى استدعاء عدد كبير من الوزراء والنواب الذين جرى استجوابهم إما بناءً على تقارير ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، وإما عبر إخبارات كانت ترد من بعض الوزارات أو من “مواطن صالح” حيث كانت هذه الصفة تطلق على المخبر الذي لا يرغب في كشف اسمه وقد أسفرت تلك التحقيقات عن توقيف الوزير السابق شاهي برصوميان في ملف الرواسب النفطية.
يتألف قصر العدل في بيروت من خمس طبقات شاسعة، اضافة الى طبقة سفلية خصصت بغالبيتها مرأباً لسيارات القضاة وخصصت مساحة فيها للسجل التجاري. وتشمل هذه الطبقة مخفراً للقوى الأمنية المولجة حراستها اضافة الى النظارة التي تتسع لحوالى عشرين موقوفاً يوضعون فيها أثناء نقلهم من السجون الى المحاكم أو قضاة التحقيق.
ثمة أقسام عدة في قصر العدل: الأول شمالي تشغله نقابة المحامين في بيروت، والثاني جنوبي يشغله قضاة النيابة العامة الاستثنائية وقضاة التحقيق. أما الطبقة الأرضية فتضم البهو الواسع المعروف بـ“قاعة الخطى الضائعة”، وفيه محاكم القضاة المنفردين ومحاكم البداية ومحاكم مخالفات السير وصندوق المالية ومكاتب البريد. وفيما تضم الطبقة الاولى مكاتب القضاة المنفردين ومحكمة الافلاس وقضاة محاكم البداية، تشمل الطبقة الثانية قاعات محاكم الجنايات والاستئناف وأقلامها بالإضافة الى مجلس العمل التحكيمي وقلم النيابة العامة المالية. بينما تقع في الطبقة الثالثة مكاتب النائب العام المالي ومساعده ومقر الهيئة الاتهامية في بيروت ومكاتب رؤساء ومستشاري محاكم الجنايات والاستئناف.
الطبقة الرابعة تنقسم الى قسمين: جنوبي وفيه ديوان النائب العام التمييزي ومكاتب المحامين العامين التمييزيين والقلم التابع لهم ومكتب رئيس قسم المباحث الجنائية المركزية ومكاتب المحققين العدليين، وهيئة التفتيش القضائي. أما القسم الشمالي فيحوي جناح رئيس مجلس القضاء الأعلى ومكاتب رؤساء غرف محاكم التمييز والأقلام. وبين القسمين قاعتان ضخمتان تنعقد فيهما جلسات المحاكمات العائدة للمجلس العدلي ومحاكم التمييز. والطبقة الخامسة يشغلها بالكامل مجلس شورى الدولة.
ويعتبر قيمون على الشأن القضائي ان معضلة الاختناق في محاكم التمييز وتراكم الملفات مرده الى صعوبة زيادة عدد غرف التمييز وقلة عدد القضاة الذين يفترض توليهم هذا المنصب. فالقضاء يعاني نزفاً هائلاً في قضاة الدرجات العليا إما بسبب إحالة العديد منهم الى التقاعد سنوياً، وإما بوفاة البعض فيما هناك أعداد لا بأس بها من قضاة الدرجات المتوسطة والدنيا.


«مكننة» العدل
لم يغب عن هذا المقر الكثير من الورش التي حاولت إدخال المكننة في عمله، إلا أن معوقات سياسية ولوجستية حالت دون تنفيذ مثل هذا المشروع الذي لم يبصر النور إلا في السجل التجاري