جوزف سماحة
وقف جورج بوش خطيباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وراح ينثر الديموقراطية. أصابنا منها الكثير في الشرق الأوسط.
قبل أيام توجّه بوش نفسه إلى مبنى الكونغرس في محاولة منه لإقناع المترددين بتمرير مشروع قانون يبيح «تقنيات بديلة» للاستجواب، أي، عملياً، يبيح ممارسة أشكال من التعذيب.
قيل ذات مرة، في الولايات المتحدة، إن نشرة الأخبار، أيام فضيحة مونيكا لوينسكي، كادت تتحول إلى فيلم بورنوغرافي. يقال اليوم إن نشرة الأخبار، حيث تُعرض وسائل التعذيب المسموحة والممنوعة، تكاد تتحول إلى فيلم رعب.
الجامع بين خطاب الأمم المتحدة والمساعي في الكونغرس هو أن بوش يَعُدُّ الأمرين من أسلحته في «الحرب الكونية على الإرهاب». وهو يردد في كل كلمة يلقيها أن هذه الحرب لا يمكن ربحها إلاّ بالأسلحة والأفكار.
إذا سلّمنا جدلاً مع الرئيس الأميركي بأن العراق هو الجبهة المتقدمة والمركزية لهذه الحرب على الإرهاب، اكتشفنا أن «أفكار» بوش، أي الأفكار اليمينية القصوى المعطوفة على استشراقية مبتذلة وعلى مركزية غربية مغالية، أن هذه الأفكار قد تكون مسؤولة عن الدمار النازل بالعراقيين بقدر الأسلحة الأميركية، إن لم يكن أكثر منها.
«نشر الديموقراطية» هو من الدرر الفكرية لجورج بوش. وهو يؤصلها برفض أي شكل من النسبية، وبالإصرار على كونية القيم، وبالانعزال الكامل عن مجموعة شروط مسبقة. وهو، في لفتة كريمة، يقدم ذلك بصفته نفياً للاستثناء العربي والإسلامي الرافض للديموقراطية. ما يتناساه بوش تماماً هو التاريخ، والمجتمع، والثقافة، والمؤسسات، والتقاليد، والتعددية المجتمعية، والتركيبة الديموغرافية... ولأنه يتناسى ذلك، فإنه يجعل من فعل الاقتراع صنواً للديموقراطية، ولا يدرك أن المتوجهين إلى الصناديق قد يكونون من لون معيّن وأنهم، بذلك، يمارسون نوعاً من الاحتراب.
«الخصخصة» درّة بوشية أخرى. إن من يراجع المراسيم التي أصدرها بول بريمر في أثناء ولايته على العراق يكتشف كم أن الخصخصة رُفعت إلى مرتبة مقدسة تأسيساً على الوهم القائل بأن المجتمع لاحق على السوق الحرة. وثمة كتابات أميركية ذات دلالة في هذا المجال تؤكد أن الاحتلال كان مصاباً بهذا الوهم الأيديولوجي الكاره للقطاع العام، ولدور الدولة، والعاشق للمبادرة الفردية وحرية التجارة ورأس المال الخاص. لقد نُكب العراق إلى حد ما بهذه القرارات التي كررت، على نحو أشد مأساوية، تجربة «علاج الصدمة» الذي طُبّق في البلدان التي غادرت نظامها «الاشتراكي». ثمة قطاعات شعبية بكاملها وجدت نفسها مرمية خارج دورة الحياة والاقتصاد وغير معنية بما هو مرسوم للعراق. وفي المقابل ثمة شركات أميركية وأجنبية نهبت المليارات لأنها ترتبط بعلاقة زبائنية مع أركان الإدارة ولأنها عرفت، عبر الفساد، كيف تشتري مسؤولين نافذين في السلطة العراقية الناشئة.
لم يُلغ الاحتلال الجيش العراقي لأنه جيش بعثي. ألغاه لأنه جيش. ويجب أن نتذكر أن معارضين عراقيين دعوا إلى دستور تتنازل فيه البلاد عن حقها السيادي بالحرب. كما يجب أن نتذكر أطروحات ساقها مسؤولون أميركيون وتصوروا فيها عراق المستقبل بجيش من بضعة آلاف فقط. لقد بات الجميع يدرك الآن فداحة هذا الخطأ.
ليس أسهل من إعادة سوء التقدير هذا إلى خطأ مفهومي. فلقد كان محسوماً عند الغُلاة من دعاة الحرب أن العراق هو مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ومثل دول أوروبا الشرقية والوسطى بعد الحرب الباردة. قادت هذه «المركزية» إلى الاعتقاد بأن كل رفض للنظام الحاكم هو رصيد إيجابي لمصلحة القوة التي تُسقطه. لذلك، في ظل هذا الانحياز الطوعي الكثيف للاحتلال، لا لزوم لجيش. تبيّن، بسرعة، أن العراق الواقعي، عدا شماله الكردي، هو غير العراق المُتخيّل. كما تبيّن أن الولايات المتحدة التي تعاطت مع أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية هي غير أميركا الحالية.
لقد قاد تعريف العدو في هذه الحرب الكونية إلى الإصرار على لاتقليدية الأساليب القادرة على محاربته والانتصار عليه. من هنا غوانتانامو، والسجون السرية، والتعذيب، وقضم الحريات الفردية... واللافت، هنا، أن هذا التعريف لم يرتق، مرة، إلى مستوى اكتشاف الفرق بين التيارات الإسلامية، وبين المعتدل والمتطرف، وبين صاحب القضية والعدمي... جرى وضع الجميع في سلّة واحدة ووضعت معايير سياسية صارمة لترتيب التيارات الأيديولوجية وتصنيفها.
لقد تفوّق أيديولوجيو الإدارة الأميركية الحالية على الماركسيين المبتذلين في التعاطي مع القضايا المعقدة في العالم. ولم يعد معروفاً إذا كانت أسلحتهم التدميرية في خدمة أفكارهم التبسيطية أم العكس. لكن المهم هو أن الأسلحة والأفكار تضربنا رزمة واحدة، فلا تفعل سوى تعميم الخراب. ومع ذلك لا يهتز رمش في عيني بوش وهو يحاضر عن أفكاره الظافرة ومدى جدواها.
لا فائدة من إقرار «تقنيات بديلة» للتعذيب. إن في مشاهدة الرجل ما يكفي. إنه تقنية تعذيب يجب منعها فوراً.