أنسي الحاج
عندما يَهمّ الموسيقار بوضع لحن فكأنما هو يعتزم الإتيان بما يُعوّض علينا...

ما يُخفّف الألم في حَسَدنا للموسيقار هو استسلامنا لعجزنا عن تقليده. نُبْدل الحسد بالإعجاب. وكلّما كنّا أَحْسَد، كان إعجابنا أكبر.

الموسيقار هو الدماغ الوحيد الذي نحسبُهُ قَلْباً.

خَجَلُ الرجل عَتْمٌ عليه وخَجَلُ المرأة منارةٌ إليها.

كلما كان صانع الحنين لامبالياً كان الحنين إليه أغنى. حتىّ لنغرق في مادة الحنين وننسى صانعه.
تلك المرأة المحنون إليها بهذا التوق «التاريخي»، الأرجح كانت، لحظة تَكوُّن مادة الحنين، باردة كالصنم وبالكاد حرّكت جَسَدها، وهذه الحركة المجرّدة من أية رومنتيكية تفاعلت وأخذت ترسم في ذاكرتنا دوائر تخترع دوائر.
العبّاد يعبدون الحنين لأنه مادة يفرزها دماغهم لا لأن المحنون إليه يستحقّ كل هذا الشوق.

اللامبالي هو غالباً مرجلٌ يَغْلي تحت الغطاء البارد. البليد هو شيء آخر. ما يغبطه العصبيّ في اللامبالي هو «التجرّد» الذي يمنحه إياه برودُه. لكنّه ليس تجرّداً بمعنى النزاهة بل أنانية متنصّلة ومركّزة على أغراضها. الذي يُغْبَط هو البليد، المنزوع فتيل الالتهاب. البليد يقطينة الوجود، أكبر تحدٍّ للقلق.
الكائنات موجودة لتُخْتَرَق، إلاّ البليد. خُلق معصوماً من الإصابة. يعافه المرض، وإذا وصل إليه الموت بعد ألف واسطة سيظهر لأول مرّة موتاً لاهثاً.

بالطبع يقع البليد في الغرام، عندئذ يصبح الغرام بليداً لا البليد مغروماً.

المتوتّر والثرثار يرتاحان إلى البليد ارتياح الملاكم المتمرّن إلى الكتلة الصمّاء التي ينهال عليها ضرباً.

المتوتّر ليس أفضل من البليد.
بين مبشّرين: واحد منفوش الشعر يزعق ويُهدّد ويُريّل، وآخر مثل تمثال بوذا يبعث على النعاس، النعاس ألطف. لكنّ الاثنين، وسواهما، غير ضروريين للدنيا ولا للآخرة على الإطلاق.

مع ذلك يثأر البليد من الملتهبين ومعجبيهم بدون أي مجهود، فهــو ما إن ينطق بكلمة حتى تبدو خارجة من الأعماق ويبدو الجيّاشون الناريّون حيالها كأطفال الجوقة أو كالحمقى الشديدي السطحيّة. ترتبط البلادة بالعمق ارتباطاً خادعاً بفاعليّة. الإنسان ينبهر بالغموض ويتهيّب السكوت. يعتبر الأول قمّة الجمال والثاني قدس الأقداس. البلادة إعادة اعتبار غير مقصودة للوقت. بخْلُها يحرّك عقدة النقص عند مَن يحسب البخْل إرادةً وبُعد نظر. ورباطة جأشها تُحسّس الجميع بأنهم أولاد. لكنّ البلادة ظاهرة بيولوجيّة. مثل كل شيء آخر. وما نسبغه عليها من أبعاد ميتافيزيكية هو من نوع التسبيح الذكوري بأبعاد جمال المرأة. هورمونات ووظائف عضويّة تسمو بنفسها إلى غنائيّات ومثاليّات. جـــزء من سوء الــــفهم الذي ندعوه الحياة.

صادفتُ اليوم شحّاذاً يتصنّع الألم. إهانة لكرامة التسوّل. الشحّاذ هو عكس المجتمع العامل (أبشع عبارة في اللغة). وبهذه الصفة يجب أن يرفع رأسه. لو كان أذكى من صورته الجاهزة، لجلس بوقار حيث يختار وأشْعَرَنا، عندما يَقْبَل هديّتنا، أنّه يُشرّفنا بصداقته.

«أخذتِ مني الشرق، أخذتِ منّي الغرب. أخذتِ ما كان أمامي وما كان ورائي. أخذتِ القمر، أخذتِ الشمس، وخوفي عظيم أن تكوني قد أخذتِ منّي اللّه أيضاً».
(أغنية إيرلنديّة مجهولة المؤلف).

ليس مَن يَحْرمكَ كمَن يَمْنعكَ. الحارم زارع نقص يدوم. المانع حارم سطحي وسيُهزَم.

ــ أشدّ ما أكره في نرجسيّتك ادعاؤك «العمل» لأجل الآخرين بينما أنت ذاهل بعبادة نفسك.
ــ كلّنا نرجسيّون، لمَ أنا بالذات؟
ــ لأنّكَ حديث نعمة بنرجسيّتك. لو كنتَ بارعاً لخطفتَ أنفاس نرجسيّتي عوض أن تثير نعرتها.
ــ وكيف يكون البارع؟
ــ يكون في حضور يوحي أنه امّحاء. في «أنا» تولم للآخر. في وجه تَحميه بل تَخْفيه ظلاله. البارع هو ذو الحضور المحجوب الرياء، أشبه ما يكون بجديد أبحث عنه في الدائم والقديم وبقديم أبحث عنه في الصُدْفة والجدّة. البارع هو الذي لا تبدو عليه البراعة.
ــ وهل تعتقد أنه أنت!؟
ــ لا، أكيداً، بل هم الوحوش الذين أحببتُهم.

حين أتأمّل صُوَركِ تصبحين لي ملء جميع ما فيّ من عيون، جميع أسناني ومخالبي، وتمتلكينني كما يمتلك النومُ النائمَ والشلّالُ مياهه.

تجوسين في ينبوعكِ كطفلٍ يَرْضع طفولته...

لا يُحْتَمل نَفَقٌ بلا مَخْرَج.
هو يبدو هكذا الآن لأن المَخْرج بعيدٌ عن هواجس الضاغطين.
الألسنُ تَشْحَذ السكّين والأقلام تَحْفر في الكابوس.
النَفَق يطيله أهل الأنفاق، ما لنا ولأهل الأنفاق، ما لنا وللسكاكين والكوابيس، نحن أهل زُرْقة.
ليس هنا جَبَل لنا ولا سهل. لا تَضَعْ مراكبك على بحار مجمّدة. اقرأ في مكان آخر. اقرأ في عينيك. اسمع في مناخ آخر، ابتعدْ عن الضجيج.
لا تصدّق القسْمة.
منذ الأزل يا آدم كـان عليك دائماً ألاّ تصدّق القسمة.