إبراهيم الأمين
لا بأس بقليل من الهدوء. ما حشدته القوات اللبنانية أمس كان مناسباً لحجمها الحقيقي. وهو أمر جيد بعد كل ما مر به هذا التنظيم الذي يحنّ أكثر من غيره إلى زمن لا رجعة إليه. أليسوا هم من يقولون إنه لا عودة الى الوراء. لكن حفلة النفخ التي يتولاها كثير من الزملاء لن تنفع في تصخيم المشهد، ولا في تحويله انقلاباً في الشارع المسيحي. فلا حماسة وليد عبود سوف تجعل الآخرين يلطمون على وجوهم وإن كان يسرّه المزيد من الثناء الذي يرفع من شأنه حيث يعمل، ولا صراخ نوفل ضو سوف يوفر له الرضى الكامل من السيدة التي تعده بإعادته سالماً غانماً الى حيث يتساعد ووليد على جعل “المؤسسة اللبنانية للإرسال” نسخة جديدة من تلفزيون “المستقبل” بعد الإمساك بمديرية الأخبار والبرامج السياسية... لكن الكاميرات الكثيرة والألعاب البهلوانية لن تنفع في توسيع الزواريب المؤدية الى حيث كان الاحتفال الذي يستحق لقب “مهرجان باحة حريصا”!.
على أن الأمر يتصل بالحسابات المباشرة لهذا الفريق الذي يبدو أنه وافق على تولي مهمة رأس الحربة في مواجهة الآخرين، على اعتقاد أن ذلك يتيح له خلق عصبية تحل له مشاكله التنظيمية من جهة، ويعيد الاعتبار الى الاستنفار المسيحي التقليدي، لعل ذلك يخلق مشكلة عامة بين المسيحيين والآخرين. وكان سمير جعجع حريصاً على التصرف كمسيحي وعلى مخاطبة الجمهور المسيحي، وعلى تلبس دور المواجه للآخرين، معتبراً أن خصمه السياسي حزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله خصم لكل المسيحيين، وبالتالي فإن جعجع يستهدف بالعمل الآتي:
أولاً: دفع المسيحيين الى نقاش من نوع مختلف لما قام خلال الفترة الماضية، وهو لم يبرر لماذا استمر اختلال التوازن بعد تولي فريق الأكثرية ـــ وهو منه ـــ السلطة، ولماذا لم يبادر إلى مراجعة نقدية، والعودة الى النغمة التقليدية التي تقول إن مشكلة التمثيل المسيحي تعود الى استمرار الرئيس اميل لحود في قصر بعبدا.
ثانياً: التأكيد على التحالف مع وليد جنبلاط من زاوية أن الرجلين هما سبب الحرب المسيحية ـــ الدرزية وأن تحالفهما ينهي هذا الاحتمال ويجعل المسيحيين ينظرون الى الخصم الحالي بوصفه آتياً من منطقة أخرى، وهو يقصد هنا التعبئة ضد الشيعة، مستنداً إلى أن الأمر يتعلق الآن بحرب من النوع الذي يتطلب ابتعاداً عن أي علاقة بالشيعة إلا إذا تغيروا وانضموا الى 14 آذار، وهو الكلام الذي يتوجه به الى من يستمعون الى العماد ميشال عون، علماً بأن جعجع تجنب توجيه الكلام مباشرة الى عون.
ثالثاً: الكلام عن المكاسب المباشرة للمسيحيين من السلطة، ولم يجد منها إلا قوله الحاسم في نهاية الكلمة إن إعادة الإعمار يجب أن تبدأ مع الذين هدمت بيوتهم أولاً، فيما يفسر العمل المشترك بينه وبين وليد جنبلاط بــ“انتزاع” أكبر كمية من الأموال المفترض وصولها الى لبنان لمحو آثار العدوان الإسرائيلي واستخدامها في مغارة المهجرين التي لم يكتف جنبلاط منها بعد.
لكن جعجع لم يظهر كفاءة استثنائية في الإعداد للخطاب. لا بل يمكن القول إنه لولا خطاب السيد نصر الله يوم الجمعة الفائت لما كان هناك شيء ليقوله جعجع اللهم إلا إذا استمر في مطاردته للرئيس لحود، والمطالبة بإخراجه عنوة من قصر بعبدا.
ثم هناك أمر آخر يتصل بنوع التعبئة التي برزت في الهتافات التي خرج بها مناصروه في الاحتفال والتي ركزت على مهاجمة العماد عون، علماً بأن فريق القوات كان يرغب في أن يفتح جعجع معركة مع عون وأن ينسى الآخرين.
في المقلب الآخر كان وليد جنبلاط مستعجلاً الرد على السيد نصر الله. وهو رفض حتى ترك “أحد القوات” وحيداً. وأصر على توجيه رسائل تصب في الخانة نفسها، مع فارق أن جنبلاط يهتم أكثر بالتعبئة التي تقود كعادته الى جر آخرين ليكونوا وقود معركته. وهو في هذا المجال يكثر من الكلام العام وعندما يقترب من التفاصيل، يركز على ما “يراه مواجهة حتمية بين السنة والشيعة” وهو لا يمكنه أن يعيش من دون حصول هذه المواجهة.
مع أن جنبلاط كان ولا يزال مهتماً بدعم حليفه جعجع إلا أنه لا يرى أن الوقت مناسب لحصر الاشتباك داخل الصف المسيحي لقناعته بأن العماد عون لن يذهب في هذا الاتجاه، بينما يرى جنبلاط أن الهدوء في لبنان إن حصل يستلزم أولاً تفاهماً بين حزب الله وتيار “المستقبل” وهو أمر قابل لأن يشمل التيار الوطني الحر إذا كان هدف هذا الهدوء الذهاب نحو مشروع إعادة بناء الدولة بصيغة مختلفة. لكن من يجد نفسه خارج الملف هما جعجع وجنبلاط اللذان لا يجدان مكاناً لخطابهما التحريضي والعصبي إلا إذا استمرت المواجهة. وإذا كان موقع المقاومة ضد إسرائيل لا يحرّض السنة على حزب الله فإن جنبلاط يعمل بقوة من أجل إعادة الاعتبار الى العنصر السوري من خلال الضرب على وتر العلاقة التي تربط حزب الله بسوريا، حيث لا ينسى جنبلاط لحظة ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ويرى أن هذا العنصر هو الرابط الوحيد الذي يبقي الخلاف قائماً بين حزب الله وتيار المستقبل، وهو الخلاف الذي من شأنه قيادة البلاد نحو موجة التوتر التي يرغب فيها جنبلاط وجعجع.
لكن الأمر الأخطر في كل هذه اللعبة، هو السعي خلال الفترة القريبة المقبلة الى تحريض تيار المستقبل على احتلال ما تيسّر من مواقع إضافية في الإدارات الرسمية وتجاهل اعتراضات الفريق الآخر، وهو الأمر الذي يتطلب إعداد العدة للمواجهة التي ستقع تحت عنوان التغيير الحكومي. وثمة نقاش كبير في أوساط تحالف جنبلاط ـــ جعجع حول ضرورة تجاوز أي نوع من الوساطات التي يقوم بها أي طرف داخلي أو خارجي، وهو كلام يصيب من جهة الرئيس نبيه بري ومن جهة ثانية المملكة العربية السعودية، علماً بأن الرياض لا تزال تنتظر جهوزية الأطراف كافة قبل الشروع في وساطة من النوع الذي يقود الى تسوية تجنّب البلاد مواجهة قاسية تقع تحت عنوان الفراغ.