جان عزيز
غريبة قصة سمير جعجع مع اتفاق الطائف، وآخر فصولها تأكيده أول من امس في حريصا ان «الوحدة الوطنية غير موجودة الا في اتفاق الطائف»، وانه لا حكومة وحدة كهذه، ولا وحدة كهذه، «خارج اتفاق الطائف».
هذا الكلام «الطائفي» الجازم، مقروناً بأساطير بعض الادبيات المتأخرة عن علاقة عضوية بين «القوات اللبنانية» واتفاق الطائف، يقود الى طرح سؤالين: متى وافق سمير جعجع على الطائف؟ وماذا يريد سمير جعجع من الطائف؟
الاجابة عن السؤال الاول تبدو نوعاً من التأريخ، لكنها تحمل الكثير من الدلالات الراهنة. فيوم أقر اتفاق الطائف في تشرين الاول عام 1989، التزم جعجع صمتاً مطبقاً حياله. حتى ان البيان الرسمي الوحيد الذي اصدره في حينه، بصيغة «اجتماع لمجلس قيادة القوات اللبنانية»، كان في حدود ان “القوات” رأت في الاتفاق نقاطاً ايجابية واخرى سلبية، وأنها قررت التريث قبل اعلان اي موقف منها، لمزيد من الدرس والتدقيق.
ولم يلبث الدرس ان انتج مواقف مغايرة او حتى متباينة. فتحت ضغط الشارع المسيحي الرافض في حينه لاتفاق الطائف، وفي مواجهة ظاهرة ميشال عون المتفاعلة مع هذا الرفض والمستفيدة منه في آن، جمع سمير جعجع جمهوره في الكرنتينا في 26 كانون الاول 1989، في «يوم المقاومة»، ليطلق تساؤله الاستنكاري الشهير: “وهل تسأل القوات عن الطائف؟».
في تلك الفترة بالذات خرج جعجع في تصريح تلفزيوني ليطرح «الفيدرالية» مشروع حل للنظام اللبناني، كرد حول «اضطهاده» بالسؤال عن موقفه من الطائف. ولم يكتف بالطرح الشفهي، بل قرنه بلجنة ابحاث خاصة اتخذت من «بيت المستقبل» مقراً لها ، لتنجز تحت اشراف جعجع الوثيقة الشهيرة «دولة لبنان الاتحادية ـ دولة المساواة والعدالة والتعايش التآلفي». واللافت ان المشروع المذكور تضمن في بعض هوامشه انتقادات مباشرة، وبالاسم، لاتفاق الطائف.
لم تعمر وثيقة «الفيدرالية القواتية» طويلاً. فبعد ايام قليلة على انجازها، اندلعت اعنف حروب التدمير الذاتي للمسيحيين، في 31 كانون الاول 1990، فنام المشروع في الادراج، ليخرج جعجع بعد ايام على بدء الحرب، مؤكدا اعترافه “بحكومة شرعية واحدة، هي حكومة العماد عون”، في مواجهة سلطة الطائف المكتملة، رئيساً ومجلساً وحكومة، في المقلب الآخر من خط التماس. هذا الخط الذي بدا للمرة الاولى منذ 15 عاماً، انه على وشك التحول والانتقال الى قلب المنطقة المسيحية. وقعت الحرب المحظورة، على رغم مساعي الجميع، وبينهم جعجع نفسه، لتجنبها، وصار الجميع تحت رحمة دمشق، التي شاءت مصادفات التاريخ ان تعطيها اوراقاً ثلاثاً افتقدتها عقوداً: ورقة الانهيار المسيحي بعد الحرب، ورقة التفرد العربي بعد اجتياح صدام حسين الكويت، وورقة التفاهم السوري ـ الاميركي بعد انطلاق عاصفة الصحراء، وسط عالم جديد احادي القطب والقيادة.
في ذلك الوقت ظل جعجع يواجه آلية ترجمة اتفاق الطائف دستورياً، وظل طيلة اسابيع “يفاوض” حول نصاب المجلس النيابي اللازم لتعديل الدستور. حتى جاء محسن دلول في تلك الزيارة الشهيرة الى الكرنتينا في آب 1990. والتي رواها رجل دمشق الموثوق يومها، بالتفصيل الدقيق والممل. في نهاية الزيارة أقنع دلول جعجع، وفق تعبير الاول، «ببيع» التعديلات الدستورية الى حافظ الاسد شخصياً، وهكذا كان، حدد يوم 20 آب موعداً لاجتماع المجلس، استكملت التحضيرات، واتصل الياس الهراوي بقصر المهاجرين ليزف خبر موافقة جعجع، فجاءه الجواب: علمنا بذلك منذ الامس.
نشرت تعديلات الطائف في 20 أيلول 1990 ممهورة بتوقيع الهراوي، اجتاح السوريون المناطق المسيحية بعد اقل من اسبوعين في 13 تشرين الاول، سقطت حكومة الطائف الاول بعد اسابيع في كانون الاول، وجاء عمر كرامي فعاد جعجع الى الممانعة.
لم تكن يومها قد درجت بعد عبارة «الانقلاب على الطائف»، والتي تعود أبوّتها الى ألبير منصور, بعد عامين على الاقل، لكن اللافت انه في حين كانت تهمة «الانقلاب» هذه قد اضحت مكتملة الادلة والقرائن «الجرمية»، كان جعجع ينجز البيان التأسيسي لحزبه المزمع انشاؤه.
بين خريف 1993 وشتاء 1994، وحتى انفجار كنيسة سيدة النجاة في 27 شباط من ذلك العام، كان جعجع قد وضع اللمسات النهائية على «مانيفستو» القوات: لا ذكر اطلاقاً لاتفاق الطائف, بعد 5 اعوام على اقراره، لا اشارة قط الى اسطورة «العرابة القواتية” لهذا الاتفاق، بعد 3 أعوام ونيف على اسقاط عون، ولا تلميح بتاتاً الى دينامية «وثيقة الوفاق الوطني»، في تطلعها النهائي الى صوغ النظام السياسي للبنان. لا بل على العكس، جاء المانيفستو القواتي تأكيداً على دعوة «اللبنانيين الى بناء دولة اتحادية»، لأن مكمن الازمة اللبنانية في وجود «تناقص وخطأ في النظرة الى الدولة اللبنانية منذ قيامها والى غائية هذه الدولة في استمرارها». في 21 نيسان 1994 دخل جعجع معتقل اليرزة أسيراً لدى سلطة الطائف، فبدأت تروج في أوساط المعنيين بقضيته اسطورة «القوات عرابة الطائف»، في زمن لم يكن للبنان وكيانه ودولته وطائفه، إلا عراب واحد، عنوانه عنجر. فمتى وافق سمير جعجع على الطائف؟.
(يتبع غداً)