نقولا ناصيف
أخرجت السجالات الأخيرة بين طرفي النزاع أولويتين يتسلّح كل طرف منهما بإحداهما في مواجهة الطرف الآخر: أولوية «حزب الله» حكومة وحدة وطنية، وأولوية قوى 14 آذار تخلّي الحزب عن سلاحه. بذلك يستخدمان الوسيلتين اللتين سيخوضان بها انتخابات رئاسة الجمهورية الصيف المقبل. كل منهما يراهن على الوقت وعلى قدراته في تجريد الآخر من الوسيلة التي يهدّد بها.
وهكذا يخوض كل من «حزب الله» وقوى 14 آذار «صولد» المعركة السياسية التي يعتقد أنها قد تكون آخر الحروب اللبنانية الداخلية لتحقيق تكافؤ سياسي قبل الوصول الى انتخاب رئيس الجمهورية. يقول الحزب إن سلاح المقاومة هو لمواجهة إسرائيل، ولكنه بات أيضاً ضماناً جدياً وحقيقياً لحماية مكانة الطائفة الشيعية ودورها من محاولة قوى 14 آذار الاستئثار بالسلطة في لبنان وابتلاعها. وتقول هذه إن تمسّكها بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة الى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية يمكّنها من وضع اليد بالوكالة على صلاحيات رئاسة الجمهورية عملاً بالمادة 62 من الدستور إذا تعذّر الاتفاق على خلف للرئيس إميل لحود يرضي الغالبية الحاكمة وتطمئن اليه ما لم يخرج من صفوفها. «حزب الله» يتخلى عن السلاح عندما يتخلى فريق 14 آذار عن سلطة الغالبية، وفريق 14 آذار يضع ندّه في مواجهة خطرين: أحدهما افتعال مشكلة مع المجتمع الدولي عبر تعطيل تنفيذ القرار 1701، والآخر فتح أبواب المجهول أمام أزمة دستورية رئاسية عبر سلاح فقد وظيفته في الجنوب، المكان الذي برّره.
في مواجهة كهذه لم تعد معادلة شارع في مقابل شارع هدفاً في ذاته لكل من الطرفين، بل أضحت واحداً من جسور عبور الى المشكلة الأم: أي من هذين الفريقين سيحكم لبنان في المرحلة المقبلة ما دام أي منهما لا يثق بشراكة الآخر له في الحكم؟
تبدو الخلاصة المتشائمة هذه خير معبّر عن حجم المأزق الذي تكشّف ما بين الجمعة والأحد الفائتين. وهو ما تبرزه ملاحظتان على الأقل:
* أولاهما الحاجة الى تفاهم سياسي جديد بين طرفي النزاع على غرار مؤتمر الحوار الوطني الذي امتص سجالات حادة قبل 2 آذار الماضي حول سلاح المقاومة ومصير رئيس الجمهورية بعد انهيار التحالف الرباعي، وبدا مذذاك بمثابة تسوية ارتكزت على سلسلة قرارات إجماع قادت الى هدنة ما لبثت أن انهارت بعد حرب 12 تموز.
والواضح أن إرساء تفاهم سياسي جديد، غامض الملامح حتى الآن، يعوّل على الأركان الثلاثة الرئيسيين: الرئيس نبيه بري والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ورئيس الغالبية النيابية سعد الحريري. وعلى وفرة الجهود التي أخفقت حتى الآن في إعادة الروح الى اجتماعات الحريري ونصر الله، فإن كلاً من الرجلين ــــ بحكم موقعه ودوره ــــ مسكون بهاجس الانهيار الشامل: لا الحريري يريد أن يفقد السلطة التي بلغها بكلفة باهظة للغاية ونجح في قيادة غالبية حاكمة في مجلسي النواب والوزراء لئلا يفقد مبرر بقائه واستمرار دوره في لبنان وفشل تجربة السيادة اللبنانية، ولا نصر الله يريد أن يُدفَع به الى مواجهة داخلية تحوّل سلاح مقاومة إسرائيل مصدراً لمشكلات أمنية داخلية تجعل من الحزب ميليشيا مدمرة للدولة والوطن داخل زواريب الأحياء والطوائف.
وربما نتيجة شعور الرجلين بوطأة الانهيار الشامل يبدوان في حاجة الى تفاهم جديد يبتكر رئيس المجلس فكرته وآليته بعدما أضحى مؤتمر الحوار الوطني جزءاً من المشكلة.
* وثانيتهما أن التزام بري الصمت حيال السجال الحاد الأخير لم يضعه على الحياد في مواجهة هو شريك فيها مع نصر الله، وقد أكدا مرة أخرى تماسك الموقف الشيعي عندما أعلنا يوم السبت تمسّكهما بسلاح المقاومة. تالياً لم يعنِ إعلان بري في خطاب 30 آب في ذكرى غياب الإمام موسى الصدر دعماً مطلقاً للحكومة يتيح للغالبية الحاكمة الانقلاب على التوازنات الداخلية فيها وفي مناصب السلطة التي يتقاسمها الطرفان، وتوسيع نطاق المواجهة مع «حزب الله». وقد تكون المشكلة المحيطة بالمدير العام للأمن العام اللواء وفيق جزيني المثال الأفضل لتصفية حسابات سياسية من شأنها أن تحمل بري على أكثر من الخروج عن صمته لمجرد إشعاره بأن الانقلاب عليه هو الآخر.
ومع أن تعيين جزيني في منصبه لم يكن، وللمرة الأولى منذ تعيين أول مدير لهذا الجهاز عام 1945 هو الأمير فريد شهاب، خيار رئيس الجمهورية، عنى هذا المنصب باستمرار دوراً سياسياً قبل أن يكون مجرد وظيفة. وكان في صلب توازنات سياسية، وخصوصاً حينما كان المنصب مارونياً يضطلع بدور الوسيط الذي لا غنى عنه. كانت تلك حال فريد شهاب وتوفيق جلبوط وأنطوان الدحداح وفاروق أبي اللمع وزاهي البستاني وجميل نعمة وفريد روفايل وجميل السيد. وقد يكون المثل الأسطع الدور الذي اضطلع به اثنان من هؤلاء تباعد بينهما الخيارات والمدرسة السياسية والعقائدية: زاهي البستاني الذي كان مع جوني عبده أحد صانعي رئاسة بشير الجميل واستقال عام 1983 من الأمن العام بعدما شعر بأن الرئيس أمين الجميل يريد أن يحيله موظفاً في إدارة رسمية، وجميل السيد الذي لم يكتفِ بدور ضابط أمن النظام، بل أضحى ضابط أمن المقاومة على مرّ سني عهد لحود. وعندما اصطدم بالرؤساء لحود وبري وسليم الحص ورفيق الحريري والوزير ميشال المر وبنواب، وباللواء غازي كنعان، لم يكن من السهل إقصاؤه من منصبه نظراً الى أهمية الدور الذي اضطلع به، وكان نصر الله في بعض الأوقات أحد مصادر حماية موقعه ودوره. وهو أمر لا يمتّ حتماً بصلة الى «النظام الأمني» الذي عرفته العهود اللبنانية على تعاقب الرؤساء ورجالهم: كان مدير الأمن العام فريد شهاب رجل «النظام الأمني» للرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون، ورئيس الشعبة الثانية أنطون سعد لا توفيق جلبوط رجل «النظام الأمني» للرئيس فؤاد شهاب، ورئيس الشعبة الثانية غابي لحود لا جوزف سلامة رجل «النظام الأمني» للرئيس شارل حلو، ومدير الأمن العام أنطوان الدحداح لا جول البستاني رجل «النظام الأمني» للرئيس سليمان فرنجيه، ومدير المخابرات جوني عبده لا فاروق أبي اللمع رجل «النظام الأمني» للرئيس الياس سركيس، ومدير المخابرات سيمون قسيس لا جميل نعمة رجل «النظام الأمني» للرئيس أمين الجميل، ومعاون مدير المخابرات جميل السيد لا ميشال الرحباني ولا ريمون روفايل رجل «النظام الأمني» للرئيس الياس الهراوي، ثم عندما أضحى مديراً للأمن العام، هو لا ريمون عازار رجل «النظام الأمني» للرئيس إميل لحود.
والواقع أن لكل عهد نظامه الأمني وفلسفته في طريقة جمع المعلومات وإدارة العلاقات السياسية بين القوى تحريضاً أو تعاوناً. ولا تخرج الغالبية الحاكمة الآن عن هذه القاعدة.
مغزى المشكلة التي تتخطى جزيني، الرجل، أن تعيينه كان في صلب اتفاق مثلث للتحالف الرباعي الذي أعدّ لمرحلة ما بعد خروج سوريا من لبنان انطلاقاً من انتخابات بعبدا ـــ عاليه التي منح فيها «حزب الله» قوى 14 آذار الأصوات التي مكنتها من السيطرة على الغالبية النيابية. تضمّن الاتفاق المثلث: انتخابات 2005، المشاركة في الحكومة، والتعيينات الأمنية (وقضى ذلك بترك تسمية مدير الأمن العام الذي يبقى شيعياً لبري و«حزب الله»).