جان عزيز
مطلع عام 1992، سنة الاستحقاق النظري «لاعادة تمركز» الجيش السوري في لبنان، وفق “روزنامة الطائف»، كان مسؤول لبناني سابق يتنقل بين مكاتب الادارة الاميركية في واشنطن، مذكراً بالموعد المفترض، سائلاً عن مدى الالتزام به، ومطالباً بالايفاء. لكن الاجابات التي تلقاها لم تكن مطمئنة، في لبسها وضبابيتها. حتى وصل الى البنتاغون، حيث كلام العسكر أقل دبلوماسية وتورية، فسمع القول الفصل: “ان اساس اتفاق الطائف، يرتكز على بقاء النفوذ السوري في لبنان، لا على زواله».
وأثبتت الاعوام الاثنا عشر التالية ان الكلام الاميركي في حينه لم يكن كذباً، كما لم يكن نهائياً. لقد كان صادقاً في تعبيره عن سياسة واشنطن حيال لبنان، ولقد كان «ظرفياً»، في انفتاح هذه السياسة على التطورات والمتغيرات. لكن الواقعة في دلالاتها كافة، كما في مدى تلك الاعوام وتحولاتها، تفرض العودة الى السؤال الآن: ما هو المتاح اليوم لسمير جعجع، او لأي مسيحي آخر موال للسلطة القائمة او مشارك فيها، ان يريده من «اتفاق الطائف»؟
علما ان اطار هذا التساؤل هو الشق الداخلي من «الطائف»، اي طبيعة النظام اللبناني وتركيبته، بعدما تكفلت التطورات الدولية من 11 أيلول 2001 الى 1 أيلول 2004، أي من القرار 1373 حتى القرار 1559، باستعادة السيادة اللبنانية، وتنفيذ الشق الخارجي من «الطائف» العاجز والمأزوم والمعطل بنيوياً عن التنفيذ.
وعلما ايضاً ان السؤال حول ما يريده مسيحيو السلطة من “الطائف”، مطروح ضمن هامش المستحيلين: استحالة العودة في النظام اللبناني الى ما قبل «الطائف»، واستحالة التقدم مع «الطائف» في اتجاه «المشاريع المسيحية» التي كانت لهؤلاء، قبل الاتفاق ومعه وبعده.
اي افق يفتحه «الطائف» في التركيبة الداخلية للدولة ونظامها وسلطتها؟ ثلاثة احتمالات واقعية، لا رابع لها، تبدو متاحة او ممكنة.
الاحتمال الاول، ان ينتقل لبنان من وصاية خارجية الى اخرى، وهذا الافق الممكن والمحذور في آن، لا تفرضه رغبات الاطراف المحليين، ولا مجرد عجزهم الذاتي، ولا حتى استبطان البعض تطبعاً «عنجرياً» نتيجة الاعوام الطويلة الماضية, ولا كل ذلك مجتمعا وحسب. لكن الاخطر هو في كون هذا الاحتمال يجد جذوره الموضوعية والواقعية والتكوينية في اتفاق الطائف نفسه. ذلك ان هذا النظام اوجد آلية ذاتية العطب لحكم لبنان. تكفي قراءة النص الذي صار دستوراً، لتأكيد ذلك. ماذا لو لم يشكل «الرئيس المكلف» حكومة جديدة في لبنان؟ لا جواب في «الطائف». ماذا لو لم يوقع وزير مرسوماً؟ لا جواب. ماذا لو بدّلنا طوائف الرئاسات؟ لا جواب. وماذا لو لم يسمّ النواب مرشحاً للتكليف؟ لا جواب.. وعشرات الفجوات الدستورية المماثلة والمتروكة في «الطائف» ودستوره. هل هي لمرونة دستورية عريقة؟ طبعاً لا، فالمرحلة كانت تأسيسية، لا أعراف فيها ولا تقليد ولا تراكم. فجوات تركت مفصلة على قياس «وصاية خارجية» ما، تماماً كما قال البنتاغون لسائله اللبناني سنة 1992. وتماماً كما يبدو الوضع اليوم، في جوانب كثيرة منه. فليست مصادفة ان يكون اتفاق باريس قد جاء بالحكومة الأولى لما بعد الانسحاب السوري. وليست مكابرة الاقرار باتفاقات جدة او الرياض او سواهما للاستمرار في ادارة الدولة. وليس مستغرباً ان يكون السفراء اليوم في حال حرج ذاتي، لاستذكارهم في بعض عملهم، صورة غازي كنعان، او رستم غزالة، ليس الامر ذنبهم، انها مسؤولية «الطائف»، في هذا الشق منه وفي هذا الوقت.
اما الاحتمال الثاني فهو في ان ترضى الجماعات اللبنانية الملتحقة بالسلطة اليوم، بأولوية واحدة منها على كل الآخرين، وان تسلم بأرجحيتها على الباقين، وان تقبل بالتوازن التراتبي الذي انتهى اليه «الطائف» في تركيبة السلطة، لتتجنب صراعاتها في ما بينها، وبالتالي استدراجات تدخل السفراء. والواضح في هذا المجال أن الجماعة الوحيدة المرجحة لهذا «التقدم» هي طائفة رئيس الحكومة. وذلك ليس للأسباب الذاتية المرتبطة بالسنة في لبنان ومقدراتهم وحسب، بل ايضاً بسبب الموقع الاولي الذي اعطاه نظام «الطائف» الراهن، لمركز رئيس مجلس الوزراء. وهو الواقع الذي أدركته الجماعات اللبنانية الاخرى طيلة 15 عاماً، والذي سعت الى مواجهته اما بالاستعانة بالوصي السوري نفسه، واما بالممانعة والمقاطعة والانكفاء.
هكذا يصير الاحتمال الثاني الممكن، هو القبول بهيمنة داخلية، لتجنب الوقوع مجدداً تحت وصاية خارجية. وهو احتمال تفرض الدقة العلمية الاقرار، بأن العديد من مسيحيي السلطة، بات يلامسه او يلتزم نتائجه الفعلية او ينضبط في سياقه العملي, والامثلة اكثر من ان تحصى.
ويبقى الاحتمال الثالي لتطور «الطائف»، في ان يفسح المجال امام دينامية هذا الاتفاق، لتكتمل وفق «نصها وروحها»، ولتنتقل الى صيغتها النهائية، كما يؤكد الكثيرون من «الشاغلين» فيه منذ بداياته، والصيغة النهائية لنظام «الطائف» كما يقول آباؤه الحقيقيون، ليست غير الغاء الطائفية السياسية، والانتقال الى دولة متحررة كلياً من اي قيد طائفي. هل لهذا ظلت بكركي طيلة عقد ونصف تتحدث عن «الطائف»، اتفاق ضرورة، لوقف الحرب لا غير؟ وهل للسبب نفسه ظل الصرح دوماً حساساً ايجاباً، حيال قصة «سلة التعديلات الدستورية»؟
ماذا يريد مسيحيو السلطة من “الطائف” اذن؟ المتاح في الواقع “عنجر” اخرى, او قريطم هذه، او انقلاب على الذات, لا يبدون مؤهلين له ولا مصارحين لشارعهم به, ولا واثقين به وبأنفسهم معه.