فداء عيتانيالقوى الإسلامية مضعضعة والسلفيّون يقاومون

تغيرت طرابلس بعد الحرب، لا اضواء ليلاً ولا زينة لرمضان. «عادة لا تزين الشوارع قبل رمضان» يقول سائق سيارة اجرة شاب وهو يستمع إلى اذاعة الفجر التابعة لجهة اصولية محلية، غير أن سائق سيارة اجرة كهلاً يقول «كل عام كانت طرابلس تــــــــتزين لاستــــــقــبال الشــــهر، لكن السلف الصالح رحـــــل وأخذ معه البركة، لم نعد نـــــجد بركــــة ولا قناعة، اليوم الطمع هو السيد، وأصحاب المحال الذيــــــن لا يكادون يعملون بعد الحرب، لا يدفعون ولو ليرات قليلة للتزيين».
الطمع نفسه يدفع سائق سيارة اجرة يرتدي العباءة والقلنسوة البيضاء ليطالب بألف ليرة فوق التعرفة، «الاشياء غلت»، يقول، وهو يمسّد ذقنه الطويلة الشائبة ومن سيارته تنبعث رائحة العنبر، وعلق على مرآتها شعاراً لإحدى الجمعيات الجهادية الشهيرة في طرابلس.
السمة الأبرز لعاصمة الشمال هي الاهمال الذي يصيب كل مرافقها، وقد تكون هذه السمة ابرز من إسلامية المدينة، التي تعدّ عن حقّ معقلاً للجماعات المختلفة، من الصوفية إلى السلفية التكفيرية إلى الجهادية إلى الجهادية التكفيرية، وصولاً إلى بقايا فرق المتصوفة الدراويش وشيوخ طرق ماتوا وبقيت طرقهم.
كان من الصعب ردم الهوة بين سؤال عن انتشار القاعدة في الشمال وبين الجواب عن السؤال لولا مساعدة مكتب «الأخبار» في الشمال بمختلف العاملين فيه، خلف كنيسة مار مارون يجلس عبد الله بابتي من قادة الجماعة الاسلامية في الشمال في مكتبه الهندسي، ويتحدث عن تاريخ الحركات الاسلامية في الشمال عامة وفي طرابلس خاصة.
فلسفة بابتي أن مشاركة طرابلس في الانتصار للقضايا الاساسية كانت دائماً دفاعية، وكانت القوى الاسلامية فيها تعيش في عصرها الذهبي عند نهاية حقبة الستينيات خاصة، قبل أن تنتقل إلى مرحلة التضعضع ابتداء من عام 1992، أي مع نهايات الحرب الاهلية وبداية عصر الانتخابات النيابية، برغم أن شباناً اسلاميين ناشطين عديدين يرون أن دور عاصمة الشمال تعدّى موقعها الجغرافي: «طرابلس كانت دائماً الرافعة في العمل الاسلامي» يقول الشيخ محمد خضر.
تضعضع القوى الاسلامية الذي يشير إليه بابتي صحيح نسبياً، فالجمعيات الوهابــــية تكثر، والسلفيون متعددو الاتجاهات، لا يوحدهم شيء تقريباً إلا الفــــقه، لكنهم يختلفون في التطبيقات والأهواء، وحركة التوحيد الاسلامي انقسمت على ذاتها.
«لا تعارض في الموقف السياسي بين الجناحين (بلال شعبان وهاشم منقارة) إنما الاختلاف على الارث» يقول احدهم وقد رفض التصريح عن اسمه لأسباب شخصية. والوهابيون يقسمهم خط عريض هو الموقف السياسي، فمنهم من يؤيد المملكة العربية السعودية ومنهم من يؤيد اسامة بن لادن.
«السلفيون شأنهم شأن التيارات الاسلامية الاخرى» يقول الشيخ محمد خضر «هم أكثر من قسمين بكثير» يضيف الشيخ الذي لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من العمر، والذي يعمل على تأسيس «المنتدى الاسلامي اللبناني للدعوة والحوار» وهو لقاء يفترض أن يجمع كافة الشبان الناشطين من مختلف التيارات الاسلامية من الصوفية إلى السلفية، للحوار فيما بينهم، والذي ينتظر موافقة وزارة الداخلية على العلم والخبر المقدم اليها.
يبدو تجميع شبان ناشطين من كل هذه التيارات كمثل وضع البارود قرب النار، او بلغة تنظيم القاعدة: كزرع الصاعق في المتفجرات، الا أن اللافت أن كل الاطراف الفاعلة والنشطة في الاوساط الاسلامية شبان ومتحمسون ومن خلفيات فقيرة وعلى دراية علمية لا بأس بها «اذا ضربت الحائط وقمت بفعل (يقولها بالفرنسية) فالحائط سيقوم برد فعل مواز» يستخدم الشيخ بلال شعبان البالغ من العمر 42 عاماً قاعدة علمية ليقنعك بأن ما يفعله الشيخ اسامة هو رد فعل طبيعي على الظلم، ولكن مقابل هذا الموقف فإن الشيخ محمد خضر، الذي يعيش في منطقة القبة، لا يؤيد انتشار رد الفعل وإن كان هو أيضاً يرصده: «تراكم الظلم يولّد عند الشباب رغبة بالمقاومة والانتقام».
سياسياً ماذا يريد السلفيون الجهاديون
لا تعدم في طرابلس أن تجد من يدعو، ومن على منابر المساجد، بطول العمر لـ«الشيخ اسامة». «كلما ذكرت الشيخ اسامة أدعو له بطول البقاء» يقول احد ائمة المساجد، ولا يجد غضاضة في الأمر، لكنه يرفض ذكر اسمه. هل من انصار للشيخ اسامة في طرابلس وجوارها؟ «بن لادن ارضيته خارج اطار الحركة الاسلامية المعروفة كجماعة أو إخوان» يقول بابتي. هل ينتشر بين اوساط شبيهة بمن بات يعرف بموقوفي الضنية؟ «لا، معتقلو الضنية اعتزلوا في لحظة احساس بالـــــظلم والاضطهاد، واستمروا نتيـــــــجة حمق، واعتقلوا هدية امنية للـــــغرب، ولو تأخرت المعركة يوماً واحداً لكنا اقنعناهم بالعودة إلى بلداتهم» يقول إمام مسجد شاب وناشط.
«طبيعة الخلق الدفاع عن النفس» يقول بلال شعبان، وهو يجلس في مسجد التوبة الذي يؤم الصلاة فيه، والمبني منذ 700 عام بحجر رملي وقناطر هندسية في مزيج ما بين البناء الصليبي والبناء الاسلامي، ويضيف: «كل الكلام عن القاعدة وغيرها يدخل في اطار الدفاع عن النفس». شعبان الذي يجد وسطاً حيوياً له في مناطق الدباغة والزاهرية الشعبية وذات الكثافة السكانية الكبيرة والقريبة من المدينة العتيقة، يقول: «منع انتشار القاعدة يكون عبر ازالة الاسباب، الظلم، الاحتلال في العراق وأفغانستان وفلسطين، فليتبعوا سياسة نزع الذرائع مع تنظيم القاعدة».
الشاب الذي يمثّل نقطة تقاطع بين السلفية الجهادية وإيران الاسلامية والتكفيريين وحتى إلى حد ما الصوفية، شعبان، يرى أن «موت الحياة السياسية وتهميش طبقات كاملة من السكان وتحول مناطق كاملة إلى مناطق مستضعفة» كل هذا يولّد حلقة رفض للواقع المجحف الذي تحمل مسؤوليته قيادات سياسية محلية، ولكن أيضاً الولايات المتحدة، وهناك من يؤسس لحلقات رفض «وهي نفسها سواء لدى المسلمين او المسيحيين»، ولا يرى شعبان فرقاً بين اليسار والقاعدة في خضم المعركة التي توحّد الجميع.
«الآن لدينا عدوّ خارجي وهذا يريح الجميع من الصراعات الداخلية» يقول شعبان، «وإن كان الضوء الاخضر لم يعط للصراع الاسلامي ــ المسيحي في لبنان فالخشية أن يكون قد اعطي للصراع السني ــ الشيعي» يضيف شعبان الذي يرصد كلام الرجل الثاني في تنظيم القاعدة ايمن الظواهري الاخير والذي سرّه شخصياً «دعم المقاومة في لبنان وأطفأ الكثير من عوامل الفتنة».
الشيخ خضر الذي يمثل «النهج المنفتح في العقيدة السلفية» يرى أن القاعدة «ونتيجة التوجيه الإعلامي الغربي، تحولت إلى مفهوم لمواجهة المشروع الاميركي، فأصبح الكل يحمل اسم القاعدة» ويضيف: «كثر من الشبان في ساحتنا الداخلية يرون أن اسامة بن لادن يخاطب مشاعرهم، ويمثّل بالنسبة لهم بوابة للخروج من المآزق».
وعلى المستوى الداخلي يقسم خضر نظرة السلفيين إلى آل الحريري وآلية السلطة السنية في لبنان إلى ثلاثة اقسام: «فريق من السلفيين يعتبرون آل الحريري المرجعية المؤهلة للحفاظ على مصالح الطائفة لتحقيق توازن نسبي في لبنان، فريق آخر يرى أن العائلة بعد رحيل رفيق الحريري فقدت الكثير من دورها، والبعض الثالث يرى أن هذه العائلة أكثر من مشبوهة ولديها اتصالات خارجية» يقول خضر بدون أن يسمّي الاتصالات الخارجية التي يشير اليها احد الناشطين الذين رفضوا ذكر اسمهم بـ«اسرائيل».
«الظواهري اعلنها حرب مقاومة ضد الحرب الصليبية» يقول عبدالله بابتي، وهو يكاد يوافق على توصيف الحرب «بوش لم يزلّ لسانه» ويضيف: «عند الفعل والاساءة فإن رد الفعل سيكون مختلفاً في اتجاه دعوات القاعدة، كنا نتمنى لو أن اسامة بن لادن والظواهري يتّجهان لقتال اسرائيل، لكن في كل الاحوال نحن لا نوافق على قتل الابرياء» يختم بابتي السائر على خط واضح بعيد عن دعوات القاعدة إلى المواجهة.
جلّ ما يريده السلفيون هو تظهير رد فعل على ظلم لاحق بالعرب والمسلمين في العالم، الظلم لم يبدأ مع افغانستان، بل مع قضية فلسطين «فلتأت القاعدة» يقول احد القادة العسكريين السابقين لتنظيم اسلامي جهادي في منطقة الشمال، «فلتأتِ القاعدة، ما الخيارات وما البدائل لها اليوم؟ كل هذا الموت في الحياة السياسية، وكل يوم ثمة من يحاول اخذ لبنان إلى المشروع الاميركي، والاميركيون مصرّون على مشروعهم وعلى اخذ البلد»، يقول الرجل الذي عانى ويلات الحرب برغم صناعته لبعض هذه الويلات «لا بديل عن القاعدة الآن».
(غدا حلقة ثانية وأخيرة)

اجزاء ملف "القاعدة في بلاد الشام وطرابلس مدخل إلى الجهاد":
الجزء الأول | الجزء الثاني