البقاع ــــ عفيف دياب
لم تكن الحدود اللبنانية السورية (أكثر من 360 كلم) يوماً "مضبوطة" أو متماسكة. كانت “تُمسَك” أو “تفلت” بحسب المناخ السياسي. فمنذ أن أعلنت فرنسا ولادة "لبنان الكبير"، والحدود بين البلدين "الشقيقين" في حالة كر وفر

في عام 1958، كانت "الثورة" التي يتقدمها كمال جنبلاط في لبنان تتصدى لحكم كميل شمعون بدعم "بعثي ـــ ناصري" مباشر. وكانت الحدود خير باب لعبور "قوافل" الحمير والبغال المحملة بالأسلحة والذخائر وحتى المقاتلين. ثارت ثائرة واشنطن وألزمت الأمم المتحدة بإرسال مراقبين دوليين الى مناطق دير العشاير عامذاك. وغادروا لاحقاً بعدما فشلوا في ضبط الحدود التي لا يمكن "ضبطها"!
ثم عرفت الحدود اللبنانية السورية، ولا سيما في منطقة راشيا، معسكرات عسكرية تدريبية لفصائل فلسطينية ولبنانية متنوعة. فمنذ ما قبل عام 1969 انتشرت قوات "الثورة" الفلسطينية على طول الحدود مع سوريا في الأراضي اللبنانية، وشقت طرقاً تربط معسكراتها بسوريا مباشرة. وتحولت هذه الطرق طوال الحرب الأهلية اللبنانية الى طرق "علنية" للتهريب المتنوع.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية، أمسك الجيش السوري بنقاط الحدود في دير العشاير وبكا وينطا وحلوة وعيتا الفخار، وأقفل معسكرات تابعة لحزب العمال الكردستاني ومنظمات "ثورية" أخرى في صيف 1993.
ولم ينجح الجيش السوري طوال "إمساكه" بالحدود هناك في ضبط عمليات التهريب اللبناني الى سوريا، وفشل أيضاً في منع التهريب "السوري" الى لبنان طوال مدة بقائه حتى نيسان 2005.
يقول مراقبون في سهل البقاع إن إمكان ضبط الحدود بين لبنان وسوريا يعدّ "ضرباً من الخيال". فالحدود "وعرة" جغرافياً ولا إمكان لمراقبتها عن كثب وضبطها بشكل محكم. ويشيرون الى أن عمليات التهريب "لا يمكن وقفها ومنعها. فالذي يريد ان يهرّب بين البلدين يستطيع عبور الحدود سيراً على الأقدام. إذ هناك عشرات القرى المتداخلة، إضافة الى الأراضي الزراعية والى ما هنالك من منافذ برية في أودية شديدة الانحدار والوعورة".
الكر والفر في "الصراع" الحدودي بين لبنان وسوريا، أدخل شعوب "الجمهورية اللبنانية" في أتون الخلافات السياسية مع سوريا التي "فرضت" العام الماضي حصاراً برياً من خلال منع شاحنات النقل الخارجي من عبور أراضيها من لبنان نحو البلاد العربية. نجح هذا "الحظر" في "إقلاق" لبنان السياسي والاقتصادي. هذا "الحصار" تهدد به دمشق مجدداً إذا وافق لبنان على نشر قوة دولية عند حدود البلدين. يقول مطلعون إن جهات أمنية سورية رسمية أبلغت جهات مماثلة في لبنان لم تنقطع معها الاتصالات وعمليات التنسيق، أن "جولة الوفد الأمني الألماني في محلة المصنع الأسبوع الماضي توحي وكأن لبنان الرسمي وافق على إعطاء الألمان حق المراقبة الميدانية، إضافة الى مراقبين دوليين من جنسيات أخرى". لكنّ جهات أمنية في البقاع تقول إن "الاجتماعات التي عقدت في قاعدة رياق الجوية كانت واضحة وصريحة، وان الجيش اللبناني سيتكفل وحده بمهمات المراقبة البرية، وقد يستعين بمراقبة جوية تنفذها مروحيات تابعة للجيش اللبناني عند اقتضاء الحاجة، ولا داعي إلى القلق السوري من وجود مراقبين دوليين".
يمتدّ الانتشار اللبناني الرسمي على طول الحدود مع سوريا من شمال بلدة شبعا في الجنوب، مروراً بجرود قضاء راشيا وزحلة وبريتال وحام ومعربون ونحلة وراس بعلبك وعرسال والقاع والهرمل في البقاع، وصولاً الى كل خط الحدود في شمال لبنان. وهذا هو الأول من نوعه لجيش لبنان على الحدود مع سوريا. وقد عزّز بمواقع مراقبة ومجنزرات ودبابات وآلاف الجنود الذين انتشروا لأول مرة في أرض لبنانية منذ الاستقلال.
لم يرق هذا الانتشار اللبناني لسكّان القرى اللبنانية المتاخمة او المتداخلة مع سوريا. فالأهالي يعتاشون من "سوريا”، وهم لبنانيون فقط بالهوية وفي مواسم الانتخابات النيابية. أما عناصر عيشهم، وحتى تعليم أولادهم، فـ“مصدرها” سوريا.
قوافل الجيش اللبناني التي دخلت مناطق حدودية، وقرى حدودية، وجدت كل الترحيب من الأهالي الذين نثروا الأرزّ والورود على هذه القوافل التي اخترقت حدود قراهم النائية. لكنّ هذه القرى التي تعتاش من "التهريب" بين البلدين يتخوف سكانها من أن "تمتد" مراقبة الجيش اللبناني الى "التهريب". فالكهرباء والماء والهاتف والمواد الغذائية والطبابة وصفوف التعليم وسهرات السمر إلى العلاقات الاجتماعية وغيرها من "صنع سوريا". الخدمات اللبنانية لم تصل إلى هناك حتى الآن.
ويعتبر نموذج قرية الطفيل خير برهان على مدى تداخل الحدود والسكان. فالطفيل قرية لبنانية لا يمكن الوصول اليها الا عبر الأراضي السورية. وكل مقومات عيشها من سوريا.