جوزف سماحة
هناك احتفال بالاحتفال وبخطاب الاحتفال. احتفال لدى فريق من الأكثرية باحتفال «القوات اللبنانية» بذكرى الشهداء، وبالخطاب الذي ألقاه سمير جعجع.
سبب الاحتفال الأكثري ما يُعتبر، في هذه البيئة، انقلاب الموقف لغير مصلحة «التيار الوطني الحر». والدليل على ذلك حجم الاحتشاد الذي تتفاوت تقديراته وتُبنى الحسابات (الخاطئة) على أكثرها تفاؤلاً. إن هذا هو السبب الظاهر. السبب الفعلي للحبور هو أن جعجع بدا، في خطابه، مثل شريك «لا يطلب شيئاً لنفسه». وفي الوقت الذي تسعى فيه هذه الأكثرية إلى تحويل ميشال عون إلى إميل لحود آخر لناحية ضيق قاعدته الشعبية المسيحية، تبرّع جعجع بأداء دور لحود لناحية التعفّف عن طلب شيء وأغفل تماماً النظر إلى الخلل الموجود في البلاد.
يجب، ربما، سحب شعار «حكومة الوحدة الوطنية» من التداول أو إعطاؤه مضموناً آخر. فالطابع التمثيلي لمهرجان الأحد، وهو حاسم في رأي المحتفلين بالاحتفال، يفرض قيام حكومة اتحاد وطني تحصل فيها «القوات» على حصة معقولة جداً من التمثيل المسيحي. وهذا ما لن يحصل.
لن يحصل لأن الاختبار الفعلي للنزعة الاستئثارية لدى جناح من الأكثرية الحاكمة هو في مطالبتها بإعطاء حلفائها حقهم، وخاصة أنه، أي هذا الجناح، مضطر إلى التعظيم من شأن 24 أيلول لأسباب دعاوية. ليس الاختبار في امتحان القدرة على التوسّع نحو «الخصوم». فهذا أمر يفوق طاقة أكثرية الأكثرية على الاحتمال. ليبدأوا بالأسهل، وليوحوا أنهم راغبون في إشراك الأقرب إليهم في إدارة الشأن العام.
إن جعجع، في ذهن «أصحاب» الأكثرية الفعليين، سلاح إعلامي ليس إلا. وهم، في مسعاهم إلى تطويع «شركاء» آخرين في السلطة لا يستبعدون إحراج «حزب الله» لإخراجه. ولقد وقفوا، في الأيام الأخيرة، عند مشارف الاصطدام برئيس المجلس نبيه بري بعد الإطناب في امتداحه لمجرد أن أحمد (مرجعيون) فتفت أراد ذلك.
تقول الحسابات السياسية البديهية إن جعجع أخطأ في كلمته لأنه لم يشدّد، كفاية، على موضوعة التوازن. وهو أخطأ، تحديداً، لأن المعركة التي يخوضها، ضمن البيئة المسيحية، لا تجد ذخيرة لها إلا في سلوك حلفائه الحاكمين. لقد أرسلوه إلى المواجهة من دون ذخيرة. ثم عادوا وقدّموا إليه تعويضاً معنوياً قضى بتنصيبه زعيماً... زاهداً. لقد كان عليه أن يتبصّر، بعض الشيء، في مصير «الائتلاف الرباعي» الطيّب الذكر وبالكيفية التي يعقد بها حلفاؤه تحالفاتهم عند الحاجة، ويفضّونها ساعة يشاؤون.
لكن المشكلة أن جعجع لم يرتكب في ذلك المهرجان خطأ واحداً فحسب. لقد بالغ في مجانبة الصواب.
أولاً ــ لقد كانت بنية خطابه خاطئة. فهو يطلّ في مناسبة يفترض أن تعني له ولجمهوره الكثير. وكان من واجبه أن يتصرّف كقائد سياسي يملك رؤية وبرنامجاً لا كمعلّق على خطاب قيل قبل يومين. لا يطالبه أحد بعدم الرد على خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله. ولكن هناك رداً ورداً. صيغة «يقولون... أما نحن فنقول» غير موفّقة. ليقل ما يريد قوله وليترك للآخرين الاستنتاج.
ثانياً ــ لغة الخطاب تصعيدية بشكل مجاني. نعرف أنه بتصويبه على نصر الله يريد إصابة عون. ولكن، مع ذلك، لا مبرّر لتهويل يقوده إلى استحضار «الشياح ــ عين الرمانة»، ولا نفع لسياسة تريد الكسب عن طريق التخويف. ولا ضرورة لمساجلة تستند إلى «الطائف» و«الدولة» وتوحي أنها خارجة عليهما معاً. ثمة قدر من الخفّة، ومن الاستسلام لضرورات الخطابة المنبرية، في إحياء المتاريس الطوائفية.
ثالثاً ــ إن خطاباً جدياً كان يمكنه أن يلتقط في ما قاله نصر الله ثلاث رسائل على الأقل. الأولى هي أن السلاح غير أبدي، الثانية هي المطالبة بحكومة وحدة وطنية، الثالثة هي التشديد على قانون انتخابي عادل. تلك كانت رسائل موجهة إلى اللبنانيين عامة وإلى الجمهور الذي ينطق جعجع باسمه خاصة. فاته التمسّك بها. والتمسك بها لا يعني أبداً تبنّيها كما وردت ولكنه يعني، بالضرورة، اعتبارها «مكاسب» والدعوة إلى البناء عليها والاحتفاظ، في الوقت نفسه، بالحق في إمكانية الاختلاف حول شروط بناء الدولة، وتركيبة الحكومة التوحيدية وبرنامجها، ومضمون القانون الانتخابي. لو عرف جعجع كيف يحاور نصر الله من موقع التباين لكان أعطى للمناسبة بُعداً، ولكان انتزع لنفسه موقعاً أقوى.
هذا تضخّم في الأخطاء يفوق ما يمكن خطاباً واحداً أن يحتمله. ولكن، مع ذلك، نجح «الحكيم» وبدا كمن يريد أن يحجز لنفسه صدى إيجابياً في بعض المنتديات، وكمن يريد أن يخاطب شخصين اثنين لا أكثر من أجل أن يسمحا له بأن يكون ثالثهما.
لقد ردّ له الاثنان التحية بمثلها. أفهماه أنهما يريدانه في المناسبات، وأنه ضيف في الصالونات لا في غرفة القرار. أوعزا إلى من يهمه الأمر ليحتفل بالاحتفال ثم انصرفا إلى تدبّر الشؤون العامة أو ما يسمّيانه كذلك. أحدهما عزّ عليه الأمر. قرّر ألا يكون جعجع الخطيب الوحيد في 24 أيلول. ولولا وجود «مؤسسة القوات اللبنانية للإرسال» لبدا أن الاحتفال بالشهداء يقام بعيداً جداً عن حريصا.