جوزف سماحة
أهم من كلام سعد الحريري قبل يومين أنه قيل بعد عودة رئيس تيار «المستقبل» من المملكة العربية السعودية وبحضور سفيرها في لبنان.
من هنا واجب التساؤل: هل هذه إشارة غير سارّة إلى انتقال السعودية من رعاية الوفاق اللبناني إلى تشجيع طرف أو تحالف على حساب الآخرين، وإلى دعم سياسات تؤدي إلى رفع مستوى التوتر الداخلي؟ هل حسمت الرياض أمرها وقررت دفع لبنان نحو أزمة؟ هل تريد فعلاً أن تفتح ملفاً خطيراً يضاف إلى ملفي فلسطين والعراق (وأفغانستان)؟
كان يمكن هذه الأسئلة أن تكون نافلة لولا وجود إشارات إلى أن المبالغة في الاطمئنان باتت نوعاً من السذاجة.
أولاً ــ لنتذكر الموقف السعودي في بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان. لقد دان المغامرة غير المحسوبة ورفض أن يؤدي سلوك معيّن إلى وضع جدول أعمال غير متفق عليه وإلقاء تبعات غير متوقعة. شكل هذا الموقف مفاجأة لكثيرين، لأنه بدا شديد الاقتراب من تبرير العقوبة الإسرائيلية النازلة بلبنان ومقاومته. كان يمكن الديبلوماسية السعودية، في ذلك الوقت، أن تبقى على تحفظها المعهود. إلا أنها غادرته وأعطت الضوء الأخضر للبنانيين ليتحدثوا عن «محاسبة» لاحقة تلي «المحاسبة» الإسرائيلية وتستكملها، كما أتاحت لأصوات عربية أخرى (مصر والأردن) أن تجد مناسبة لإعلان انضمامها إلى «محور الخير».
ثانياً ــ لم يكن منطقياً أن تتدخل السعودية لترمي ثقلها إلى جانب المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار. لم يكن ذلك منطقياً لأن من يقول «مغامرة» لا يسعه إلا غضّ النظر عن تأديب المغامرين. إلا أن الرياض اضطرت إلى تنظيم التراجع فأكثرت من شتم العدوان وإدانة إسرائيل. لقد حصل ذلك تحت ضغط الوقائع الميدانية، وفي سياق ميل شعبي عربي وإسلامي إلى التعاطف مع المقاومة، وهو ميل اكتسح محاولة لاستثارة عصبيات مذهبية.
ثالثاً ــ لقد كان بعض الإعلام السعودي منحازاً جداً ضد المقاومة، مرة باسم الاختلاف العقدي، ومرة أخرى باسم ليبرالية مزعومة، ومرة ثالثة باسم العداء المرير لـ... قطر! تبارى بعض هذا الإعلام في تقديم الدروس عن الواقعية، وفي التفجّع على الضحايا، وفي امتداح «المكرمات» لإزالة آثار عدوان كان يفترض التصدي له والسعي الجدي لإيقافه.
رابعاً ــ مع اقتراب «الأعمال العدائية» من نهايتها تأرجح الموقف السعودي بعض الشيء ثم تبلورت سياسة تقوم على دعامتين: حجب صورة الانتصار أولاً، والتصرّف، ثانياً، على قاعدة منع أي تأثير لما جرى سواء على الوضع اللبناني الداخلي أو، خاصة، على الوضع العربي. لقد قيل في هذا المجال «إن حرب الصيف قرعت جرس الإنذار». مقاومة العدوان قد تكون أخطر من العدوان. ومصدر الخطر الفعلي هو احتمال العدوى.
خامساً ــ جرت محاولة عربية رسمية، شاركت فيها السعودية، لـ«تقطيع وقت العدوان». قيل إنه مع انجلاء غبار المعركة سيبدأ تحرك جدي لطرح مبادرة سلام عربية في مجلس الأمن تعالج المشكلات كلها وتقود إلى تسوية شاملة في خلال شهور. إلا أن هذه المبادرة تكشّفت عن كونها «فقاعة». والواضح، اليوم، أن أقصى ما يمكن الحصول عليه هو تظاهر بتحرك ما على المسار الفلسطيني من أجل امتصاص النقمة، ومن أجل توفير شروط أفضل لخوض المواجهات على الجبهات التي تحددها حرب أميركا الكونية على «الإرهاب».
سادساً ــ لا بد أن يكون المواطن العربي قد لاحظ البرودة الاستثنائية في التعاطي السعودي مع الأنباء المتسرّبة من إسرائيل عن لقاءات ثنائية على مستويات عالية. نعم لقد نفت الرياض هذه الأخبار. ومن «الواجب» تصديق النفي. إلا أن ذلك لا يجدر به أن يمنع أحداً من متابعة المعنى الخاص لسيل كلمات الإطراء الصادرة من تل أبيب على ما يعتبره مسؤولون هناك تطورات السياسة السعودية. الالتقاء السياسي، في نظر إسرائيل، أهم من اللقاء الشخصي. والتطورات المشار إليها لا تشمل طبعاً المبادرة التي أطلقتها قمة بيروت. لنقرأ شمعون بيريز «المبادرة العربية للسلام غير عملية... والمشكلة هي ما سيحدث للجماعات الإرهابية لكونها تمثل العائق الرئيسي الآن؟».
تشي هذه المقدمات كلها، وغيرها، باقتراب المملكة من الاندراج في المنظور الأميركي الخاص بتعريف مشكلات المنطقة... والخوف هو أن يكون السلوك السعودي في لبنان متساوقاً مع ذلك. ولقد أوضحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس معالم هذا المنظور في سلسلة اللقاءات الصحافية التي عقدتها في الأيام الأخيرة:
1 ــ إن الخطر الداهم على المنطقة هو الخطر الإيراني و«امتداداته». وهكذا فإن صمود المقاومة في لبنان ليس انتصاراً عربياً على إسرائيل، بل هو انتصار إيراني مذهبي على العرب.
2 ــ إن حصار إيران ضروري أكثر من أي وقت مضى، وهو حصار يجب عليه أن يبقي الخيار العسكري قائماً. لذا فإن على «المعتدلين» العرب الاستعداد لمواجهة آثار أي حرب محتملة، لا بل المشاركة قدر الإمكان، وعلى الأطراف، وبوسائل وديعة، في هذه الحرب.
3 ــ تقول رايس إن أمام الولايات المتحدة وحلفائها «فرصة لتحدي طموحات إيران في المنطقة». تضيف: «نحن لا نستطيع أن نسمح باستمرار الأمور على هذا المنوال، ولهذا يجب تعزيز القوى اللبنانية المعتدلة... ومقاومة دمشق وحماس وإيجاد الوضع الذي يسمح ببروز المعتدلين في الأراضي الفلسطينية». وتقول، في مقابلة أخرى: «إن حزب الله يشعر بوطأة الضغط عليه»، داعية إلى الاستمرار في هذا الضغط وإلى أهمية «دعم المعتدلين العرب بعضهم لبعض»، مشيرة تحديداً إلى الدعم السعودي للبنان. هذا جدول أعمال كامل يشمل المنطقة كلها ويحدد لكل من قواها الرسمية والسياسية دوراً.
4 ــ من المتوقع أن تخفف الولايات المتحدة من التشديد على «الديموقراطية» لمصلحة التشديد على «الاعتدال». هذه هديتها لحلفائها.
يمكن الاستنتاج أننا، في لبنان، أمام سبب جدي للقلق. ففي ضوء ما سبقت الإشارة إليه لا يعود سعد الحريري ناطقاً باسمه واسم تياره فحسب، ولا تعود مبالغاته (إفراغ قريطم، والمختارة، والسرايا) شطحات قد لا يؤاخذ عليها. نصبح أمام كلام إقليمي (سعودي بالدرجة الأولى) ودولي (أميركي). نصبح في امتداد دور منسوب إلى الثلاثي المعتدل، السعودية ومصر والأردن، لمعالجة أوضاع الثلاثي «المأزوم»: لبنان وفلسطين والعراق.