جوزف سماحة
ما هو المشترك بين وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس والأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله؟ المشترك هو أن كلاً من الاثنين يعدّ «حرب الصيف» اللبنانية ذات أبعاد إقليمية مهمّة. رايس ترى فيها رسالة مهمة إلى المنطقة وجرس إنذار أيقظ قوى «الاعتدال» (اقرأ الاستسلام)، ونصر الله يرى فيها رسالة مهمة إلى المنطقة وجرس إنذار أيقظ قوى «المقاومة».
يتقاطع الاثنان في فهم الحرب وآثارها على المحيط. لذا يستطيع الاثنان أن يجدا صيغة حوار ــــ تصادم. لكن المفارقة هي أن الوزيرة الأميركية تترك لأصدقائها اللبنانيين أمر قول أي كلام. ففي توزيع الأدوار على القوى الملتحقة بالسياسة الأميركية كانت حصة القوى اللبنانية هي ترداد الخطاب العبثي والطفولي الذي تبرع شخصيات الأكثرية النيابية والحكومية في تعميمه. لا يرى هؤلاء، في ما جرى، سوى الجانب الإنساني على أهميته، ويتوافقون على استحالة الحديث عن انتصار في ظل هذه الكلفة (من يسأل سعد الحريري عن كلفة «إعادة الإعمار» في التسعينيات، من يسأل وليد جنبلاط عن كلفة حرب الجبل، من يسأل سمير جعجع عن كلفة خياراته السابقة؟).
إذاً، قول الحقيقة من اختصاص رايس ونصر الله وللأكثرية اللبنانية واجب تزوير الوقائع. من هنا، قد، تزداد صعوبة الحوار الداخلي.
أكثرت رايس، في الأيام الأخيرة، من إجراء المقابلات الصحافية. حصل ذلك بعد خطاب جورج بوش في الأمم المتحدة، وبعد أن بدا أن الإدارة استقرت على توجّه محدد حيال المنطقة يفترض الاهتمام به في ما بقي من الولاية الثانية. يجب أن نضيف إلى ذلك أن وزيرة الخارجية الأميركية باتت في موقع الاعتقاد بأن «حرب الصيف» وفّرت لها، بتفاعلاتها، فرصة للتحرك في المنطقة وفكّت عنها، نسبياً، العزلة التي أوقعت نفسها فيها بعد احتلال العراق وبعد رعايتها الحملة الإسرائيلية على الفلسطينيين.
«حرب لبنان»، بهذا المعنى، قد تكون منعطفاً. فكيف حاولت رايس شرحها في سلسلة اللقاءات التي عقدتها؟
كررت رايس، غير مرة، أن الحرب كانت، في الجوهر، صراعاً بين الاعتدال والتطرّف. وركزت على أنها مواجهة بين معسكرين يضم الأول السعودية ومصر والأردن، ويضم الثاني إيران وسوريا (التي عزلت نفسها). صحيح أن «حرب الصيف» دارت في لبنان ولكن لا ينبغي لها أن تحجب أن شيئاً مماثلاً لها كان يحصل في فلسطين والعراق. مسرح العمليات، إذاً، لبناني ــ فلسطيني ــ عراقي. أما شعار الحرب، من وجهة نظر الولايات المتحدة، فهو السلطات المعتدلة في لبنان، فؤاد السنيورة ضد «حزب الله»، وفي فلسطين، محمود عباس ضد «حماس»، وفي العراق، نوري المالكي ضد المتطرفين السنّة والشيعة.
قد تبدو أطروحة رايس غريبة بعض الشيء ومخالفة للانطباع السائد. فـ«حرب لبنان»، كما عشناها مباشرة، هي حرب بين إسرائيل من جهة و«حزب الله» من جهة ثانية مدعوماً من فئات لبنانية ومن «مقاومة سياسية». كلا، تجيب رايس، هذا الانطباع خاطئ. إن حرب لبنان هي، في الجوهر، حرب عربية ــ عربية. أما إسرائيل فلقد حاولت، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن آخرين، توفير الشروط المناسبة من أجل انتصار الاعتدال عبر إلحاقها الهزيمة بالمتطرفين. ولأن العنف الإسرائيلي كان موضوعاً في خدمة «الاعتدال» فإنه تلقّى مساعدة سياسية وعسكرية من الولايات المتحدة وغيرها، عرباً وأجانب.
تقول رايس، إذاً، إن تلك كانت وظيفة العدوان الإسرائيلي على لبنان، وإن هذه هي وظيفة إسرائيل أيضاً في الأرض الفلسطينية المحتلة. ومن الواجب مساعدتها هناك عبر المقاطعة الاقتصادية لإظهار أن «حماس» غير قادرة على الحكم وأن الاعتدال هو البديل منها. لإسرائيل، والحالة هذه، دور مؤقت في لبنان (يفترض بآخرين استكماله بمساعدة القوات الدولية بعد توضيح مهماتها)، ودور أساسي في فلسطين. أما في العراق فإن الاحتلال الأميركي هو الذي يقوم بهذا الدور. الأدوات مختلفة والهدف واحد: نصرة الاعتدال.
الناقص في اللوحة التي ترسمها رايس ببراعة ودقة هو موقع «الاعتدال العربي» في هذه المواجهة. تسمّي قوى الاعتدال بأسمائها: السعودية، مصر، الأردن. وتنتدبها إلى مهمة محددة هي تلقّف الحالات اللبنانية والفلسطينية والعراقية بعد نجاح العنف الإسرائيلي والأميركي في ترويضها وتغليب قوى الخير فيها على قوى الشر.
تقول رايس في «وول ستريت جورنال» «إن دعم قوى الاعتدال اللبنانية واجب... وكذلك يجب أيضاً التصدي لحزب الله». وتوضح في «نيويورك بوست» أن موقف السعودية ومصر والأردن «كان استثنائياً... وأعتقد أنكم سترون كيف ستقدم هذه الدول الموارد والأموال تشجيعاً لقوى الاعتدال». تضيف أن السعودية بادرت، بسرعة، إلى دفع مليار ونصف مليار دولار لـ«مواجهة حزب الله وإيران. وأعتقد أنكم ستشاهدون المزيد من ذلك». وتصرّح إلى «نيويورك تايمز» بأن لبنان كان في حالة جمود فجاءت الحرب ثم تحركت الأوضاع نحو الأمام، وأن الوقائع تشير إلى أن الوجهة جيدة.
لقد بات يمكن الحديث عن «عقيدة رايس» لإدارة العلاقات العربية ــ العربية. إنها عقيدة تقوم على تشجيع المعتدلين العرب (غير الديموقراطيين ولكن الأقوياء) من أجل دعم المعتدلين الديموقراطيين (ولكن الضعفاء والمأزومين). إلا أن ذلك قد لا يمكن أن يحصل إلا تأسيساً، وبناءً على العنف الذي يمارسه الاحتلالان الأميركي والإسرائيلي، وذلك في سياق الحرب على الإرهاب والتصدي للطموحات... الإيرانية!
تدليلاً على تطبيق هذه العقيدة تقدم رايس، وهي أستاذة جامعية سابقة، حرب لبنان نموذجاً. تكشف أن الولايات المتحدة ناقشت موضوع الحرب مع إسرائيل، وطالبتها بأن تقاتل «حزب الله» وتتجنب المس بالحكومة اللبنانية. إلا أن الطبيعة الخاصة لهذه الحرب، حيث «الحزب» مندمج في السكان، جعلت تحقيق المهمة صعباً. لذلك بدا، في وقت لاحق، أن الضرر كاد يصيب الحكومة المعتدلة ولذا تحوّل الهدف وأصبح الإبقاء على سلطة لبنانية قادرة على أن تمد سلطتها لاحقاً أهم من استكمال تدمير «حزب الله». لذلك كان لا بد من حل ديبلوماسي، تقول رايس. ومن هنا جاء توقيت وقف العمليات.
يقدم هذا العرض حلاً لسجال لبناني راهن عن الأدوار المتفاوتة في «التصدي» للعدوان الإسرائيلي. كان رأس «حزب الله» مطلوباً ولكن قطعه يهدّد بإصابة «المعتدلين». وهكذا فإن وقف الحرب وقع نتيجة تلاقي رافدين: صمود المقاومة المعادية، وهشاشة الحكومة المعتدلة. نعم، لعبت الحكومة دوراً، لكنه الدور الذي أتاحه لها هامش لقائها مع السياسة الأميركية الإجمالية في المنطقة. ويمكن الاعتقاد بأن هذا الدور كان مسموحاً به لقاء وعود وتعهدات بسياسات وتوجهات لاحقة تعبّر عنها، اليوم، مواقف الأكثرية.
عودة إلى ما سميناه، تجاوزاً، «عقيدة رايس». تنبني هذه «العقيدة»، جوهرياً، على الملاحظة القائلة بأن «حرب لبنان» أدّت إلى إيقاظ المعتدلين العرب ودفعهم نحو تجاوز الممنوعات وارتضاء القيام بمهمات ملموسة في سياق الاستراتيجية الأميركية. لقد باتوا موافقين على أنهم ركيزة ثانية لاستراتيجية ركيزتها الأولى إسرائيل.
يعني ذلك عملياً أن «المعتدلين العرب» (وبينهم اللبنانيون) لم يستفيقوا لأن عدواناً حصل وإنما لأن هذا العدوان ووجه بمقاومة ناجحة. إن يقظة «الاعتدال العربي» هي يقظة ضد... العرب!