غسان سعود
يتساقط التفاح والدرَاق على الأرض، وعيون أصحاب الرزق تسترق النظر إليه من بعيد، وترتجف قلوبهم خوفًا من مجرد التفكير بمد يدهم لقطف ثمار ما زرعه أهلهم. فخسارة القوات اللبنانية لحرب الجبل كلفت مسيحيين كثراً ثمنًا باهظًا، خصوصًا في البلدات المختلطة. فعُلق الاعتراف بأرزاق المسيحيين ومنازلهم وحقوقهم في بعض القرى. ومنع أصحاب الرزق من التفيؤ بظلال الأشجار التي شاخت من دون أن تسقيها الأيادي التي زرعتها
تكرّرت الوعود والمصالحات. من “الطائف ــ 1991”، مروراً بـ“مصالحة الجبل ــ 2001”، إلى “14 شباط 2005”. وما زالت “عودة المسيحيّين الكريمة” إلى الشوف وبعبدا وعاليه وسائر مناطق التهجير، ممنوعة. وتتّضح معالم “الدويلة ضمن الدولة” في بريح الشوفية، وعبيه وكفرمتى في عاليه، وكفرسلوان في بعبدا، حيث يحظر الأهالي الدروز برعاية ودعم الحزب التقدمي الاشتراكي، دخول أهلها المسيحيين إليها بعد خمس عشرة سنة من السلم الأهلي المفترض. واستُثنيت هذه البلدات من الانتخابات البلدية، واستُحدثت للمسيحيين في الانتخابات النيابية مراكز اقتراع على أطرافها، لأنّ “الدولة” لا تستطيع أن تحمي أبناءها من مزاجيّة محتلّي منازلهم وكنائسهم ومصادري أرزاقهم.
  • بريح
    السائل في الشوف عن بريح تسبقه إلى القرية المعلومات الكاملة عن هويته وهدف زيارته. وتبدو طريق القرية الفرعية مليئة بالقصص. فبريح نموذج لمأساة إنسانيّة بدأت قبل أكثر من أربع وعشرين سنة وما زالت مستمرة بنسب مختلفة بين بلدة وأخرى. وكأن كل منزل مهدّم، أو دكان مقفل، ينقل رواية عن ناس وحياة هُجِرت على عجل، قبل أن تأخذ معها قليلاً من ذكرياتهاوالأنقاض المبعثرة بين بساتين التفاح تؤكد بصمتها الروايات التي ينقلها المهجّرون وأبناؤهم. ويقول بعض دروز البلدة الذين التقيناهم أنه ليس للمسيحيين في بريح منازل أو أرزاق. ويُجمل الموقف رجل آخر فيقول إن “أرزاقنا ومنازلنا مشتركة. والمصادرون لمنازل المسيحيين مستعدون لتسليمها إذا دفعت وزارة المهجرين الأموال التي يستحقونها”.
    ولا يتردد زياد جاسر، التقدمي الاشتراكي، ابن مختار بريح المتوفي، في القول إن “بيت الدروز” بُني بتمويل من وزارة المهجرين على ملكية مسيحيين من البلدة من آل عدوان وآل حسون. ويؤكد أن الدروز مجمعون على أن بناء البيت تم بطريقة غير شرعية وغير قانونية. والحل، بالنسبة إليهم، يتطلب تسوية يتحمّلها الطرفان. ومن اللافت أنّ بناة “بيت الدروز” في بريح وضعوا أمام مدخله نصباً تذكارياً لكمال جنبلاط، كتب عليه “إما أن نكون أو لا نكون”. ومن أصل قرابة ألف ناخب درزي و1500 ناخب مسيحي على لوائح الشطب الانتخابية في بريح، يغيب وجود المسيحيين تماماً، فيما يُسجل حضور دائم لقرابة ألف مقيم درزي في البلدة. والمنازل التي لم يرغب الدروز في أخذها، احتلها العشب اليابس. أما الكنائس، التي نجت من حقد الحروب وغضبها، فتحوّلت إلى منازل للمقاتلين الأشدّاء الذين انتصروا. ويطالب دروز البلدة بإبقاء “بيت الدروز”، والدفع لهم ضعف ما سيدفع للمسيحيين مقابل “انسحابهم من المنازل المحتلة”. تعويض مقابل الإخلاء، وتعويض ثانٍ لبناء منزل جديد، علماً أن جميعهم، وفقاً لجاسر، يملكون منازل أخرى، لكنهم يطالبون بمساواتهم مع سائر المصالحات، حيث فاق عدد طلبات الترميم للمصادرين ثمانية أضعاف طلبات الترميم للمهجّرين في بعض البلدات. وتخطّى عدد طلبات “قيد الإنشاء أو أقبية أو متضرر” عند المصادرين ثلاثة أضعاف عددها عند المهجّرين، في بلدات أخرى. أضف إلى ذلك حصول المصادرين وحدهم على تعويضات إخلاء، ناهيك عن نيل المصادرين تعويضات عامة بلغت في بعض القرى سبعة أضعاف التعويضات العامة التي نالها المهجّرونويقول أحد مسؤولي القوات اللبنانية السابقين في بريح، إن سياسة “وزارة الحزب التقدمي الاشتراكي” هجّرت المسيحيين وأهانتهم مرة ثانية، عبر سياسة توزيع الأموال. ويضيف أنّ “القواتيين الأصيلين يؤمنون بالقول “إن ننسَ فلا ننسى حرب الجبل”، وأنّ القيادة القواتية الراهنة تنكّرت لتاريخها وأهانت شهداءها بتحالفها مع جنبلاط قبل عودة جميع المسيحيين بشرف إلى القرى التي شهدت مجازر بسبب حرب جنبلاط وجعجع”.
  • جاسر، التقدمي، الجاهز دوماً على مدخل البلدة لاستقبال الصحافيين، لا يتركهم إلا لحظة خروجهم من البلدة. وبعد إغداقه التعليمات على الصحافيين والمصورين على شكل نصائح، يوصي بالكتابة الإيجابية عن البلدة. ولا ينسى في اللحظة الأخيرة طلب إدراج شكره لنواب الشوف وعاليه سعيهم إيجاد حل سلمي وإقفال الملف. ويشكر للبطريرك الماروني رعايته المصالحة الأهلية وتوجيهاته القيمة حول قضية بريح.
  • عبيه
    من بريح إلى عبيه، يتنهّد سائق السيارة، ابن إحدى البلدات المسيحية الشوفية، ويقول “ذهبوا هدراً الشباب الذين قتلوا”. وعند الوصول إلى ساحة دير القمر، يشير إلى كنيسة مار عبدا، ويقول “هنا وقعت مجزرة 1860! وانظروا! ما زال الدم على الجدران!”. وردّاً على استفسارات، يجيب السائق بأن الذنب لا يغتفر لمن لم يعتذر، والمصالحة لا معنى لها مع استمرار احتلال المنازل ومنع الأهل من استعادة أرزاقهم.
    لا تختلف عبيه عن بريح إلا في مشهد الجيش المنتشر على مدخلها، وملاحقة الشباب التقدميين للصحافيين بهدف الاستفهام عن غايتهم، وإجماع كل من يُسأل على أنه ليس للمسيحيين منازل ولم يكن لديهم يوماً في عبيه كنائس. أما الأدلة على الحياة المسيحية سابقاً في عبيه، فمعظمها سوّيت بالأرض، ولم يبقَ منها سوى حجارة قليلة منثورة بشكل فوضوي بين الأعشاب.
  • مصالحات تجاريّة وعودة وهميّة
    بعد خمس عشرة سنة على مصالحة الطائف، لا تنتهي مأساة المهجرين عند خمس بلدات لم تحصل فيها “المصالحات المالية” بعد. وعودة المسيحيين، بعد المصالحات، طغى عليها الطابع الفولكلوري. فمن أصل أكثر من مئة ألف مواطن مسيحي هجّروا من بعبدا وعاليه والشوف بين عامي 1982 و1984، لم يعد أكثر من 17% من المهجرين الذين اضطروا إلى شراء أو استئجار وحدات سكنية جديدة. وشهدت العائلات نمواً ديموغرافياً ضاعف عددها. لكن إحصاءات التعويض لم تلحظ “الفروع” بعين الاعتبار. وطاول التهجير 70 قرية من الشوف، و51 قرية من عاليه، و27 قرية من بعبدا، فيما هُجّر المسيحيون من 67 قرية في شرق صيدا وجزين وإقليم الخروب. وثمة فارق كبير بين نسبة العائدين في المنطقتين.
    وفي بلدة مزرعة الشوف، ترتفع على مدخل البلدة صورة كبيرة لعلم القوات اللبنانية، كتب أعلاه “لم يستشهدوا لنترك أرضنا”. ووراءها مباشرة يوجد بقايا كنيسة كبيرة، نهب محتواها وأخذت أجراسها غنائم حرب انتهت بمصالحات بين القيادات القواتية والتقدمية، واستثني الضحايا الفعليون للحرب. وينقسم المسيحيّون في البلدات التي شهدت مصالحات بين القانعين بعودتهم، ونسبتهم لا تتخطى 15%، والرافضين للعودة قبل توفر الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
    وتعتبر القرى التي شهدت مصالحات، الأسوأ في الجبل من حيث البنية التحتية، وغياب المدارس والمستوصفات. ومنازل من يُفترض أنهم عادوا ما زالت أعمدة “على العظم”، وخصوصاً أن الدفعة الأولى (15 مليون ليرة) التي أعطيت للمهجرين، لم تكن تكفي لسد احتياجاتهم المتشعبة، بعدما فقدوا كل شيء في الحرب ولم يجدوا من يحضنهم.
    ومن أبرز أمثلة سرقة مؤسسات الدولة، التي يتناقلها أبناء الجبل، فضيحة المطلّة حيث دفع صندوق المهجرين قرابة 240 إخلاء لأنصار الحزب التقدمي، على رغم أن منازل البلدة كانت قد سوّيت كاملة بالأرض وجرفت. أضف إلى ذلك التعويض الذي دُفع في مناطق عدة للّذين أخلوا منازل صادروها “في وقت سابق” من دون تحديد المكان أو الزمان. وفي إحدى القرى التي تضمّ سبعمئة منزل، حصل أهلها على سبعمئة تعويض، إضافة إلى مخالفة قانون وزارة المهجرين بدفع تعويضات لضحايا قضوا في غير حرب الجبل.
    من الشوف إلى عاليه فبعبدا، بلدات منقسمة على نفسها. هنا دويلات تعلن حريتها وسيادتها واستقلالها تحت ظل العلم الاشتراكي. وهنا استثمار سياسي للملف، فيرتفع معدل التعويضات كلما اقتربت الانتخابات، ويُنسى الملف بعد إقفال صناديق الاقتراع مباشرة.
    ويسأل البعض: لماذا لا يقتنع المهجّرون بأماكن سكنهم الراهنة، فينقلون نفوسهم وقيدهم، وينسون قراهم، ويُقفل هذا الملف؟ والجواب لا يفهمه إلا الذي حفر التراب ليغرس شجرة تفاح بيديه، والذي ذاق مرارة حرمانه من دخول منزل عمّره بعرق جبينه، فوق أرض ورثها أهله عن أجدادهم.


    مجزرة في بريح
    يروي بعض مسيحيّي بريح أن حاجزاً للجيش السوري في عاليه أطلق النار على الطبيب جورج شلهوب، عصر التاسع من تموز عام 1977، فقضى على الفور. وأثناء التشييع، انسحب الدروز بحجة وجود إكليل باسم «حركة الشبيبة اللبنانية ــ الباش مارون الخوري». ثمّ أثناء أربعين الراحل، وخلال تلاوة خادم رعية مار جرجس سامي شلهوب الكلام الجوهري وتقديس الخبز، انهمر الرصاص على داخل الكنيسة. ثمّ دخل ثلاثة مسلحين إليها، وتابعوا إطلاق النيران. كانت الضحية الأولى ملحم شكر الله كوكباني، وتبعه عشر ضحايا آخرين. أما الدروز فلهم قصتهم الخاصة أيضاً، وتقول إن المسيحيين نشطوا لتكون ذكرى أربعين القتيل سياسية بامتياز، وشارك فيها غرباء عن البلدة، أطلقوا شعارات استفزازيّة، وحصل لاحقاً إطلاق نار، فقضى درزيّان.


    حجارة الكنائس
    تتألّف قرية بريح من 14 عائلة مسيحية بلغ عدد أفرادها عام 1981، 1516 نسمة يتوزّعون على 314 بيتاً. أمّا عدد العائلات الدرزيّة فـ12، وكان أفرادها الستّمئة يتوزّعون عام 1981 على 120 بيتاً. يجمع الأهالي والمسؤولون على أنّ العائق الرئيسي أمام عودة المسيحيين إلى بريح يتمثل في إيجاد حلّ لـ«بيت الدروز» أو «بيت الضيعة» الذي شيّد عام 1992 على أربعة عقارات تبلغ مساحتها نحو عشرة آلاف متر مربع، وتعود ملكيّة عقارين منها (الرقم 816 والرقم 1407) إلى ورثة يوسف أيّوب عدوان، أمّا العقار الثالث ورقمه 79 فيملكه ورثة ابراهيم ملحم حسون. ويملك العقار الرابع، ورقمه 815، شاكر يوسف كوكباني. ويقع البناء المخالف على بعد أمتار قليلة من كنيسة مار جرجس المهدّمة كلياً. والتي يردّد بعض مسيحيّي البلدة أنّ الدروز استعملوا حجارتها وحجارة كنيسة مار الياس لبناء منازلهم.