نقولا ناصيف
احد الأسباب الرئيسية التي حملت الغالبية الحاكمة على دعم دور قوى الأمن الداخلي، وتالياً إعطاء فرع المعلومات فيها إمكانات غير متوافرة لديه بعد جعله شعبة، يكمن في نتائج التحقيقات التي أجراها الفرع في جرائم الاغتيال ومحاولات الاغتيال التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وفي جانب رئيسي من هذه التحقيقات، وصلت قوى الأمن الداخلي، في مطلع تموز الفائت، الى معطيات جوهرية تنطوي على خطورة بقيت سرية، وُضِعت في تصرّف لجنة التحقيق الدولية ورئيسها سيرج براميرتس، وتتصل باغتيال الحريري وسمير قصير وجورج حاوي.
وتبعاً لما يكشفه مسؤول أمني كبير، فإن المعطيات تركزت على دور سوري في الجرائم الثلاث على نحو حمل فريق الغالبية وقوى الأمن الداخلي على تلقّي محاولة اغتيال نائب رئيس فرع المعلومات المقدّم سمير شحادة في الرميلة يوم 5 أيلول بقلق بالغ، اعتقاداً من المسؤولين الأمنيين القريبين من الغالبية أن الدور الأمني الذي يضطلعون به وضعهم في دائرة الخطر. وهم بذلك يشيرون الى خوضهم معركة مباشرة مع الاستخبارات العسكرية السورية التي لا تزال قادرة على العمل في لبنان، وأن الفريقين أضحيا يلعبان وجهاً لوجه فوق الطاولة بعدما كان اللعب، بحكم طبيعة الاستخبارات، تحت الطاولة. وتتحدث نتائج التحقيقات عن «دور سوري» مباشر في اغتيال قصير وحاوي، وتلقي ضوءاً بالغ الدقة على مسار التحقيق في اغتيال الحريري يقود حكماً لدى لجنة التحقيق الدولية الى إبراز ضلوع سوريا في الجريمة.
في سياق هذا الواقع، اتخذت «المسألة الأمنية» لدى الغالبية الحاكمة طابعاً استثنائياً لا يقل أهمية عن تشبّثها بالمحكمة ذات الطابع الدولي، وكلاهما ينبغي أن يؤول الى كشف قتلة الحريري. وعكس الطابع الاستثنائي هذا:
إصرار الغالبية أولاً على الإمساك بوزارة الداخلية، وأن تكون محصورة بوزير سنّي لأن اغتيال الرئيس السابق للحكومة وكشف قتَلَته قضية سنّية أولاً وأخيراً. الأمر الذي حمل هذه الغالبية على تجاهل المخالفات الدستورية والقانونية المحيطة بوجود الوزير أحمد فتفت على رأسها وكالة، من دون قبول استقالة الوزير الأصيل.
واعتقادها ثانياً بأن قوى الأمن الداخلي تمثّل المرجعية الأمنية والعسكرية الكفيلة تطمينها، وخصوصاً في ضوء تحقيقات في اغتيال الحريري كانت هذه أجرتها في حقبة الحكومة السابقة وأخذت لجنة تقصّي الحقائق ثم لجنة التحقيق الدولية بقسم كبير من نتائجها وخلاصاتها. كل ذلك يترافق مع واقع يكاد يجعل قوى الأمن تارة «جيش السنّة» وطوراً تقيم في أحضان رئيس الغالبية سعد الحريري.
وشكوكها، ثالثاً، في جدية تعاون سائر الأجهزة الأمنية معها كجزء من وطأة الصراع السياسي القائم الذي وزّع هذه الأجهزة ــ بحكم الصفقة التي رافقت التعيينات الأمنية في الأسابيع التالية لتأليف الحكومة الحالية ــ على طرفي النزاع. الأمر الذي حجب المعلومات المهمة عن قوى الأمن الداخلي.
وفي واقع الأمر فإن الوجه الحقيقي لهذه المشكلة هو معاناة مزمنة كان قد عبّر عنها أكثر من رئيس حكومة ــ والمقصود بذلك الشريك السنّي في السلطة ــ من حجب المعلومات الأمنية السرّية عنه، ولا سيما منها تلك المتصلة بالأمن القومي. وكان أول مَن انتفض على هذه المعاناة الرئيس سليم الحص عندما ترأس أولى حكومات عهد الرئيس الراحل الياس سركيس إبّان مناقشة وضع قانون جديد للدفاع رقم 3/79 تاريخ 24 آذار 1979 عندما أعيد بناء هيكلية الجيش واستحدث مجلس عسكري كان أحد أعضائه الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع، وهو ضابط سنّي كبير، فأتاح لرئيس الحكومة الوصول الى المعلومات السرّية. وغالباً ما شكا الحص من أن مدير المخابرات آنذاك المقدم جوني عبده كان يحجب تلك المعلومات عنه كمظهر لثقة كانت دائماً مفقودة بين الرجلين. على أن قوى الأمن الداخلي لم تتخذ البعد الكفيل بجعلها المؤسسة المرتبطة برئيس الحكومة إلا تدريجاً بعيد وصول الحريري الأب الى رئاسة الحكومة.
على مرّ سنوات طويلة، خَبرت كل من الطوائف اللبنانية الرئيسية جهاز استخبارات تلوذ به ليكون مظلتها السياسية وحصانة قائدها: كانت مديرية المخابرات والأمن العام خزّان معلومات لرئيس الجمهورية، والمديرية العامة لأمن الدولة خزّان معلومات لرئيس مجلس النواب منذ أول رئيس لها هو العميد مصطفى ناصر بعد تأسيسها في الأول من كانون الأول 1984. وانتهت قوى الأمن الداخلي بأن تكون خزّان معلومات رئيس الحكومة منذ مطلع التسعينات. على أن الأجهزة الثلاثة هذه ما لبث أن أخضعتها الاستخبارات العسكرية السورية جميعاً ــ على غرار إخضاعها المؤسسات الدستورية والجيش ــ منذ عام 1990 لسلطتها الكاملة، فكان أن ناطت بالأجهزة الأمنية اللبنانية مهمتين متلازمتين: أولاهما أن تضع المعلومات التي تملكها في تصرّف الاستخبارات العسكرية السورية لكي تعمل هذه على استثمارها سياسياً في سياق الإمساك بلبنان، وثانيتهما أن تكون هذه الأجهزة اللبنانية أداة الاستخبارات السورية في وصول هذه الى أهدافها السياسية وإرهاب البلد.
على وقع هذا التجاذب اتخذ قرار وزير الداخلية رقم 2403 بعداً سياسياً، مردّه الانطباع الذي لا تتردّد أطراف في الغالبية الحاكمة في تأكيده، وهو وضع اليد على كل مفاصل السلطة في لبنان استكمالاً لـ«انقلاب» 14 آذار 2005. وهكذا لم يُستشَم من القرار تعزيز فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي فحسب، بل محاولته استيعاب كل الأجهزة الأخرى ووضع اليد على المعلومات التي تملكها، والإيحاء أن هذا الفرع يطمح أن يكون القوة الضاربة في يد الغالبية الحاكمة وتحديداً الحريري الابن سياسياً، وفي يد وزير الداخلية السنّي إدارياً. أضف الى ذلك عاملاً مهماً ترك ولا يزال منذ اغتيال الحريري الأب أثره في علاقة قوى الأمن بسائر الأجهزة، هو أن قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات لا يحجمان عن الجهر بانتمائهما السياسي الى الغالبية الحاكمة على أنها هي المرجعية السياسية لهما، وعن عداء واضح لا لبس فيه لسوريا انطلاقاً من تبنّيهما وجهة نظر الغالبية تلك في جريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة، وهي أن ثمة ضلوعاً سورياً صريحاً في ارتكابها. وجاءت نتائج التحقيقات التي أجرتها في الموضوع لتقدّم لها أدلة تعتقد أنها تجعلها مصيبة ومتيقّنة من إطلاق هذا الاتهام. وكل ذلك يقع على طرف نقيض من موقف سائر الأجهزة الأمنية من سوريا التي لا تجهر بمثل هذا العداء: لا الجيش ولا مديرية المخابرات يقاربان العلاقة العسكرية مع الأركان السورية بعداء التزاماً منهما لمعاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق المعقودة بين البلدين حتى إشعار آخر. علماً أن الاتصالات بين مديرية المخابرات اللبنانية والاستخبارات العسكرية السورية مقطوعة تماماً. أما الأمن العام، فإن شكوك قوى الأمن الداخلي فيه تتصل بمرجعيته الشيعية (الرئيس نبيه بري و«حزب الله») التي لا تزال تتمسّك بالتحالف مع سوريا. وهو سبب كاف ومبرّر على الأقل لئلا يكون هذا الجهاز معادياً لها في السياسة والممارسة.
وربما في سياق الشكوك هذه وعدم الثقة، يكمن جانب غير معلن في خلاف المدير العام للأمن العام اللواء وفيق جزيني مع الوزير فتفت وفريق الغالبية، مردّه الى استبعاده عن الاجتماعات المهمة التي عقدها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مرتين، في 28 آب، وقبل ذلك مع موفده المكلف تنفيذ القرار 1559 تيري رود ــ لارسن في السرايا في 19 آب.