جوزف سماحة
لنستعدّ كي نعيش، اعتباراً من يوم الأحد، فصلاً مسرحياً. وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قادمة إلى المنطقة. تحمل في جعبتها مناورة جديدة. المناورة معلنة ولكنها، مع ذلك، ستنطلي على الحكام العرب الذين ستلتقيهم. يريدون لها أن تنطلي عليهم. ولا بأس من القول إنهم شركاء في إنتاجها وإخراجها.
لا مجال للحديث عن أي «مؤامرة». لماذا؟ لأن السرية من صفات المؤامرة، في حين أن ما سنشهده معلن ومدوّن ومنشور ومتداول. رايس قادمة إلى المنطقة لتبيعها وهماً يطيب لحكام مصر والسعودية أن يشتروه.
يجب علينا، لتحديد هذا الوهم، أن نعود حوالى أسبوعين إلى الوراء، وتحديداً إلى الخامس عشر من شهر أيلول الجاري. ففي ذلك اليوم ألقى أحد كبار مستشاري رايس، فيليب زليكوف، محاضرة في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» المقرّب جداً من «إيباك» (اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة). جاءت المحاضرة في سياق أبحاث عن «استراتيجيات من أجل الحرب المتعددة الجبهات على الراديكاليين الإسلاميين»، وعنوانها «بناء الأمن في الشرق الأوسط الكبير».
حظيت تلك المحاضرة باهتمام لسببين. الأول هو أنها ألقيت بعد «الهزّة الشرق أوسطية» (الوصف لمقدم الندوة) المتمثلة بـ«حرب الصيف بين إسرائيل وحزب الله» وقُدمت بصفتها مساهمة في النقاش الرامي إلى تجنّب الهزّة التالية ذات الأبعاد الخطيرة جداً والمتمثلة بحيازة إيران أسلحة نووية. أما السبب الثاني والأهم فهو الفكرة التي طرحها المحاضر عند تطرّقه إلى «إسرائيل وجيرانها». جوهر هذه الفكرة أن النزاع العربي ــ الإسرائيلي مؤثر على القضايا الأمنية في المنطقة، وأن المطلوب التفكير في التحالف الواجب حشده لمواجهة التحديات. يسأل المحاضر: «من هم الأعضاء ــ المفاتيح في هذا التحالف؟» ويجيب: «إنهم الولايات المتحدة، والحلفاء الأوروبيون الرئيسيون، ودولة إسرائيل، والمعتدلون العرب، العرب الباحثون عن مستقبل سلمي». أطلق زليكوف اسم «تحالف البنّائين» على هذه الجبهة، في مواجهة مع «تحالف الهدّامين». أعلن المسؤول الأميركي قيام محور جديد تحالفي في المنطقة، أو أعلن السعي إلى إقامته، وهو يضم للمرة الأولى عرباً إلى جانب إسرائيل وضد عربٍ آخرين.
إلا أن زليكوف استطرد قائلاً: «إن ما يمكن أن يقوّي رباط هذا التحالف ويبقي العديد من أعضائه معاً هو الشعور (كذا) بأن الاهتمام قائم بالقضايا العربية ــ الإسرائيلية، وهو رؤية (كذا) تصميم مشترك على متابعة سياسة فعالة تحاول (كذا) التعاطي مع القضايا العربية والإسرائيلية حتى لا تترك هذه القضايا آثاراً ضارّة، أو آثاراً رمزية، تزعزع استقرار بعض الأصدقاء الذين نحتاج إليهم من أجل مواجهة التحديات التي يجب أن نواجهها معاً».
لنعاود القراءة. أعلن زليكوف قيام تحالف يضم العرب المعتدلين وإسرائيل، ولكنه يخشى على استقرار بعض العرب فيه، لذلك يطالب بخلق شعور لديهم، وتوليد رؤية، بأن ثمة محاولة للاهتمام بقضايا ذات صلة بالنزاع العربي ــ الإسرائيلي. المعادلة في منتهى الوضوح: تريد الولايات المتحدة حلفاً إقليمياً يحقق مصالحها (ومصالح إسرائيل)، ولكن شرط تظاهره بالاعتناء بمواضيع يطرحها النزاع العربي مع إسرائيل.
كان ذلك من أسبوعين ورايس قادمة إلى المنطقة من أجل استكشاف هذا الاحتمال ووضعه موضع التطبيق أو الشروع في ذلك.
ولكن يجب أن نعود إلى الفترة الفاصلة بين محاضرة زليكوف وزيارة رايس. لقد جرت مياه كثيرة. لنتوقف عند محطتين. الأولى هي أن المحاضرة أحدثت ضجة كبيرة في إسرائيل. ذهب البعض إلى تفسيرها بأنها تساوي انعطافاً في السياسة الأميركية الحالية، بحيث تدفع واشنطن إلى التضحية بمصالح لحليفتها الاستراتيجية مقابل استرضاء «المعتدلين العرب». إلا أن رايس قدمت لتسيبي ليفني وغيرها التوضيحات اللازمة، مؤكدة أنه لا أساس لمخاوف إسرائيل، وأن «المعتدلين العرب» توصلوا إلى اقتناع بأن «التطرف العربي ــ الإسلامي» أخطر عليهم من الاحتلال في فلسطين والعراق (ولبنان)، وخاصة أنه تطرف أظهر في لبنان قدرة على الصمود.
المحطة الثانية هي إقدام رايس نفسها، في لقاءات إعلامية متعددة، على توضيح المنظور الجديد الذي تحدث عنه مستشارها (راجع «الأخبار» أمس). وتشير هذه التوضيحات إلى أن إسرائيل ستكون رابحة من هذا الاصطفاف الجديد في الإقليم، لأنه اصطفاف يطالب، عملياً، برأس «حماس»، فضلاً عن «حزب الله».
بناءً على ذلك بات في وسع الفصل المسرحي الجديد أن يفتتح. ولقد مهّد له الناطق باسم الخارجية الأميركية مساء الخميس بقوله إن رايس ستتشاور مع «هؤلاء القادة الذين يملكون رؤية لشرق أوسط أكثر اعتدالاً، وسلاماً، وديموقراطية، واستقراراً، وازدهاراً». أضاف أنه يتوقع أن «تكون المواضيع الإسرائيلية ــ الفلسطينية على الطاولة». (لم يذكر احتمال زيارة رايس إلى «المعتدلين اللبنانيين»).
تبدأ الجولة الاستكشافية الأحد. تبدأ رايس حصد المكاسب وتوزيع الأوهام. سيكون ممتعاً أن نراقب تصريحات المسؤولين العرب، والإعلام الرسمي العربي، وهم يثرثرون بجدية عن أن حل القضية الفلسطينية بات على الأبواب وما من عقبة أمامه إلا استئصال «التطرف».