إبراهيم الأمين
امتدت المواجهات السياسية بعيداً جداً عن مسرحها الأصلي. فوجئ الجيش الاسرائيلي بأمور كثيرة في ميدان الحرب. الطائرات تحصي اهدافاً بشرية وعسكرية، لكنها لا تلبث أن تعيد الكرّة. في اسرائيل لا يملكون الحل. وكلما تقدم الوقت تعمقت الأزمة. العنف التدميري بحق المدنيين، بشراً وحجراً، كان يحتاج الى مواكبة من نوع مختلف في السياسة. وحدها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس كانت تدرك حساسية الموقف، وكانت في كل تحركاتها تسعى الى حفظ التوازن، بعدما بدت في أولى اطلالاتها لها بعد بدء العدوان الاسرائيلي واثقة من أن الحرب سريعة، وأن دان حلوتس سيقضي على حزب الله سريعاً، من خلال حرب جوية تدخل الجيش الاسرائيلي نادي «الحروب النظيفة«. لم يكن في مقدور أحد، يومها، مناقشتها، أو إقناعها بعدم صحة ما تفكر فيه. ولم يكن من سبيل آخر غير الأخبار الواردة من الميدان، حيث الفشل يلاحق برنامج الحرب.
لكن الأمر لم يكن يقتصر على العنف العسكري فقط. فإسرائيل تعرف، كما يعرف اللبنانيون، ان هذه الحرب مثلثة الأضلاع: هدف اسرائيلي بتوجيه ضربة الى أقوى حركات المقاومة في المنطقة. وهدف أميركي بتوجيه ضربة الى ما تعتبره «القاعدة الفعلية للإرهاب« في المنطقة. وهدف لبناني بتوجيه ضربة الى ما يقف مانعاً أمام استكمال الانقلاب السياسي الداخلي الذي قاده فريق 14 آذار بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
كان الوقت قد مرّ سريعاً في الأشهر الـ15 التي تلت إعلان أركان فريق الأكثرية التزامهم تنفيذ القرار 1559 على طريقتهم. وكانت الفرصة أمامهم تتضاءل يوماً بعد يوم. وكل ما قالوه كان يختصره البطريرك الماروني نصر الله صفير كلما زار الولايات المتحدة أو التقى مسؤولاً دولياً: «نحن لا نعارض تطبيق القرار، لكننا لا نملك القدرة على تنفيذه«. وهو الكلام الذي قاله آخرون مثل وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع وبقية أركان الفريق الحليف للولايات المتحدة وفرنسا.
بعد كل ما حصل، يبدو المشهد أكثر وضوحاً: نفذت الولايات المتحدة ما تقدر عليه وحاولت اسرائيل القيام بما كان يفترض بها القيام به، وبات على الآخرين تنفيذ التزاماتهم التالية. فهل يعيش لبنان الآن مرحلة استكمال العدوان العسكري؟
لم تصل المداولات السياسية الى نتيجة حاسمة بعد.
الفريق الأكثري يحاول مجدداً، وتماماً كما حاولت فرق الجيش الاسرائيلي فرض أمر واقع عندما فشلت الأهداف المركزية لحملتها العسكرية. وقاعدة العمل تقول إنه يجب تهديد المقاومة وتخييرها بين أمرين: إما التنازل من خلال قبول طوعي بنزع السلاح وإما تهديدها بفتنة داخلية تجبرها على رمي السلاح في غير موضعه.
لم يكن هذا الفريق بعيداً عن المعركة الأساسية. قبل مدة تولى وليد جنبلاط قيادة معركة تهشيم الصورة الأخلاقية للمقاومة ورموزها، كان يبتسم عندما يقول إنه نجح في «تحطيم كل المقدسات«، وكان آخرون يكررون قوله. وذات يوم وقف وليد عيدو، الذي أنهكه لعب الورق على شاطئ بيروت مقابل الزوارق الحربية التي تدمر الضاحية، وشكر جنبلاط على كسر هالة المقاومة. أما سمير جعجع فكان يذهب بعيداً في مقاربته «الماورائية« عندما صار يعرب عن استعداده لضمان «مستقبل حزب الله إذا قبل الانضمام إلينا«. كان جعجع يعيش عوارض الأيام المفقودة في سجن النظام السابق. ولم يكن يدرك حجم المتغيرات من حوله ومن حول عالمه الضيق. لم يكن يريد، ولا هو الآن يفكر، في أن صورة الشريك المسيحي التي أرادها بعد طول عناد ونضال ضد السلطة السابقة لم تكتمل مع الحريري وجنبلاط، تماماً كبقية أركان «قرنة شهوان» أو من فاز منهم بجائزة النيابة، وكان هؤلاء يعتقدون بأن «خصمهم المسيحي» العماد ميشال عون، يمكن إبعاده من خلال توليهم هم مقاليد السلطة. وصار أبناء السلطة الجديدة يتحولون بأسرع مما كان متوقعاً الى «سياسيين تقليديين»، فلم يسمع الناخبون خطاباً او بياناً لـ«منظّر انتفاضة الاستقلال» سمير فرنجية وكأنه لم يدخل الندوة البرلمانية، فيما ظهر الياس عطا الله على يمين «اركان الجبهة اللبنانية» مستخدماً رصيد المقاومين اليساريين في نقد المقاومة الحالية، ومستعيضاً عن صمت «اليسار الجنبلاطي» ازاء السيطرة السورية السابقة بكلام يصيب كل من له علاقة بسوريا... وكل هؤلاء كانوا يتألمون لوقوع المجازر الاسرائيلية، لكنهم كانوا يعتقدون بأن هزيمة حزب الله ان حصلت فستحقق لهم جملة أهداف:
1 ــ الإطاحة برئيس الجمهورية اميل لحود والإتيان بآخر يطيح ما تبقى من القوة السياسية للمسيحيين في لبنان.
2 ــ إطاحة خيار يبقي لبنان على صلة مقاومة بالصراع العربي ــ الاسرائيلي والاكتفاء بتكرار ما يردده حكام العرب ومثقفو «الشرق الاوسط الجديد».
3 - إطاحة كل القوى التي يعتقدون بأن مصدر حياتــــــها هو «حـــــــبل السرة» الموصــــول مع حزب الله، ولا ســـــيما حـــــلفاء ســــــوريا او «فلــول النــــظام الأمني البائد».
4 - إطاحة أعتى خصومهم الداخليين العماد عون، الذي حاول فريق 14 آذار تجريده من رصيده الأساس في مواجهة السلطة السابقة. وهم أرادوه بعد فترة عميلاً سورياً وعملوا على تحويل تفاهمه مع حزب الله الى عقبة في تمدده السياسي وجعله يخسر مسيحياً ما يكسبه في الطوائف الأخرى.
5 ــ الإمساك كلياً بمقدرات الدولة والسلطة والإطباق على الحياة السياسية بكل أنواعها وتجاهل الحقائق التي فرضتها تطورات العقود الثلاثة الأخيرة.
لكن ثمة أهدافاً أخرى يستعجل فريق الأكثرية تحقيقها الآن، وهي استعادة العصبيات الطائفية والسياسية والمذهبية التي عمل عليها طوال 20 شهراً، والتي شعر بأنها تعرضت لاختراقات كبيرة جراء العدوان الأخير. وأيضاً العمل على إعادة إقحام المقاومة في مواقع داخلية صغيرة بعدما عبر جنبلاط بأفضل طريقة عن ضيقه من «الصورة العربية الهائلة التي رسمها نصر الله لنفسه وحزبه ومقاومته» في العالمين العربي والاسلامي.
ثمة محاولة واضحة الآن، تحت ضغط لا سابق له من السفيرين الاميركي والفرنسي جيفري فيلتمان وبرنار ايمييه، للعمل على تهشيم كل صورة مشرقة بعد الذي حصل، وإبقاء لبنان تحت الركام الذي خلفته الطائرات الاسرائيلية وردمه بركام الصدام السياسي المطلوب اميركياً أكثر من أي وقت مضى.