النبطيّة ــ كامل جابر
وصل الحاج حميد نور الدين باكراً إلى محاذاة الليطاني، تاركاً عائلته في الناعمة، قرب العاصمة. وراح يحصي الدقائق دقيقة دقيقة، حتى يصل إلى بلدته مركبا التي كبدت العدو خسائر في دباباته وجنوده.
يقول الحاج حميد: «جئت أستطلع الطريق وأطمئن إلى البيت. لا أعرف إذا كان واقفاً أم دمره العدوأتمنى ألا تكون الأضرار جسيمة حتى أتمكن سريعاً من إعادة عائلتي إليه. اشتقنا إلى البيت والأرض والجنوب».
فمنذ إعلان انسحاب ما تبقّى من فلول الجيش الإسرائيلي في القليعة وبرج الملوك وبعض النقاط القريبة من كفركلا ومشروع الطيبة، أمس، زخرت الطريق بين النبطية والخردلي بالسيارات المتدفقة في حماسة العودة نحو مرجعيون.
هذه هي الطريق الوحيدة بين المنطقتين، إذا استثنينا الطريق الجانبية، المقطوعة هي الأخرى، من العيشية في قضاء جزين، وتحديداً قرب الدمشقية على مجرى الليطاني. ولأن هناك استحالة في عبور أي طريق جانبية بعد التدمير الكلي للجسر، فيما جريان النهر مستمر، سلكت بعض السيارات المحملة بأغراض العائدين من نزوحهم القسري، طريقاً ترابية جانبية، وكان لا بدّ لها من سلوك مجرى النهر في نقطة أقل عمقاً.
لم يكن عبور النهر سهلاً، وإن بارك النهر العبور، متواضعاً حتى أمام السيارات المتواضعة. وتشكلت هناك ورشة من شدّ ودفع، من يسلك يساعد من غصّت سيارته في النهر. ومن يصل لا يدر ظهره ويتابع، بل يعين، حتى تدخلت جرافة تابعة للجيش اللبناني وسوّت بعض الأرض. بيد أن الأمر بقي يحتاج إلى حلّ أنجع.
وتعمّدت بعض النسوة والأطفال في مياه الليطاني الباردة النقية. وكذلك فعل من زاد شوقه للعبور نحو الضفة الجنوبية التي حاول العدو جعلها قبلة الاحتلال ولم يفلح. فساروا في وسطها، بعد تأبّط الأحذية أو اعتمار الأمتعة، فيما الشمس تضرب الرؤوس والرطوبة تكمش الأبدان.
وبعد الظهر، وصلت أنابيب ضخمة إلى محاذاة الجسر المهدم في الخردلي، لتشكل عبارة مبدئية، قبل البدء بإعادة بناء الجسر الحيوي المفضي نحو مناطق ثلاث كبرى وأساسية: مرجعيون وحاصبيا وبنت جبيل. مناطق عانت من العدوان والنزوح ما عانته، ولكنّها لقّنت كذلك العدو دروساً في التصدي، وهزائم ظلّ حتى الأمس يجر أذيالها.
وفيما تحلق طائرة استكشافية في أجواء المنطقة، يلحقها تحليق سرعان ما يغيب للطائرات الحربية، ينهمك العشرات في كباش مع ضفتي نهر الليطاني، وليس مجراه، للعبور نحو القرى المتعطشة لعودة أهلها. تلك العودة التي لن تسهّلها غير العبّارة الضخمة المحتاجة إلى وقت لم يعد طويلاً. ويبقى عامل الاطمئنان خير معين على تأخّر العودة ساعات، بعد سكوت المدفع وغياب آلة الدمار والموت الهمجية.