راجانا حميةالضاحية لا تشبه نفسها، ضاعت معالم جغرافيتها، كانت هناك منازل وطرقات، هناك شوارع لا توحي أنّها كانت موجودة يوماً ما، وحدها بعض الإشارات التي يعرفها “ابن الضاحية” تدلّ على أنّ ثمّة شوارع كانت هنا. الضاحية، رغم مآسيها، لم يتركها سكّانها. بدأوا بالتوافد إلى منازلهم أو ما تبقّى منها منذ صباح الأمس، لحظة إعلان وقف إطلاق النار رسميّاً... لا يعرفون عن أماكن سكنهم شيئاً، ولكن “لا بدّ من العودة والعيش ولو على الأنقاض بدلاً من التسكّع في الحدائق والطرقات”، هكذا اختصرت أم محمّد شبلي أربعة وثلاثين يوماً من العيش “المؤقّت” في باحة كليّة الحقوق ــ الصنائع. أمّ محمّد وهي شاردة، “أكيد عم تفكّر بالمطبخ” تعلّق ابنتها سعاد على “شرودها”، نتابع السير لنصل إلى منطقة بئر العبد، فتتغيّر المشاهد هناك، دمار ودخان وطرقات لم تعد موجودة. تتبدّل ملامح الحاجّة، تنظر إلى المباني المحترقة، تشعر بحنينها إلى تلك المنطقة “شو كانت حلوة الضاحية على علاّتها، كناّ نحسّ بالأمان بس نمشي”، تتساءل: “كيف ممكن نرجع نحس فيه بعد هذا الدمار”.تستمرّ العودة، تصل أم محمّد أخيراً إلى منزلها، تهرع نحو الطابق الثاني لدقيقتين... تنزل وفي يدها “مكنستها القش”، تسترجع لحظات ما قبل الحرب “مثل هاليوم قبل الحرب كنّست الباحة، يلاّ بخلّص وبنطلع نشرب قهوة”.
عادت أم محمّد إلى منزلها واستمتعت بقهوتها الصباحية، في حين أن آخرين لم يجدوا بيوتهم، ها هي سعاد صادق “العروس الجديدة”، تبحث عن غرفة “كانت هنا”. تحاول سعاد تذكّر الحيّ الذي تقطنه في منطقة بئر العبد “البيت كان حدّ محطّة البنزين، وين المحطّة”، تلتفت يميناً ويساراً وتتساءل: “البيت كان هون؟”، ولكنّها سرعان ما تتذكر بيتها لدى رؤيتها السترة المرمية أرضاً “إيه هون البيت، هذه سترتي”، تقف قليلاً أمام ركامها ثم تنحني وتبدأ بالبحث علّها تجد “الجارور الذي يحتوي على مبلغ الألف دولار الذي كنت قد خبأته قبل أيّام من الحرب”. دقائق وتعود إلى صمتها، تبكِي وتستدير نحوي قائلةً: “يلاّ كلّو بيتعوّض إلاّ السيّد، المهم أن نبقى موحّدين والبيوت والمصاري كلها أمور عادية”.
“عادي” هي المفردة الأكثر تداولاً والأكثر قدرة على التماهي مع حقيقة قائمة. “بيوتنا راحت، كلّو عادي وبيتعوّض، المهم أنّو رجعنا منتصرين”، يقول أبو علي الحركة الذي لم يبق من منزله سوى “البطيخة، إلها عمر تضل متل ما نحنا ضلّينا”.
اختفت المنازل من المربّع الأمني وبقيت “بطّيخة” أبو علي وذكرى مناشير سقطت تجسّد صورة السيّد حسن نصر الله “يبني بيوت الضاحية من الرمل”.
هناك أيضاً شيء ما لا يزال صامداً يرمز لمكانه، كتب تتوزع على مدى الدمار عند اطراف ذاك المربع، توحي ببقايا ذاكرة ثقافية لمنازل ما كانت تقبع هنا، صور للسيّد نصر الله تظهر أطرافها من تحت الركام، لعب أطفال وصفحات دعاء وثياب بيضاء أصبحت رمادية، وحذاء وكراسٍ وعلم أصفر يحرسها.
احترقت معالم هذا المربّع: مبنى الإعلام المركزي لـ“حزب الله” سقط شهيداً، وكذلك محطة “المنار” التي فتح مبناها الأفق بين مبنيين متلاصقين وكثير من مراكز صحية واجتماعية وخدماتية، ووحدها حركة “النازحين” العائدين ترجع صخب ذاك “المسطّح”.