كارل كوسا
«لم نهرب كما راح البعض يتكلّم ويصفنا»، عبارة دافعت بها أمّ عبّاس عن نكتة «الصمود» التي ووجِهَ بها اللاجئون إلى سوريا، فاختصرت لسان حال اللبنانيّين العائدين من هناك، بعد نزوح اضطراريّ فرضته الحرب الإسرائيليّة على مناطقهم.
هم يؤكّدون أنهم لم يهربوا. يرفضون هذا الفعل بتاتاً. فأبناء الجنوب والضاحية الجنوبيّة لا يهربون، كما يقولون، بل يواجهون. وكلمة هروب تُستعمَل لمن ارتكب جريمة أو إثماً، أمّا هم فكل ذنبهم ــ يقول الحاج محمّد ــ «أنّهم جنوبيّون ومقاومون للعدوّ الإسرائيلي بالفطرة والوراثة».
تراوحت أسباب اللجوء المؤقت إلى سوريا بين توفير الأمان والأمن للأطفال والعجائز، وتجنّب التّعرّض لأيّ شكل من أشكال الذلّ والعَوَز والمجاعة أو الأمراض التي تنتشر بين صفوف «المكدّسين» داخل «علب السردين»، كما تشبّه ولاء مراكز النزوح المعتادة كالمدارس والجامعات.
مشهد الحقائب التي عادوا بها بدا مخيفاً، للوهلة الأولى. فبدوا كأنّهم اصطحبوا أثاث منزلهم كلّه وأعادوه معهم. لدى استفسارنا عن مضمونها وسرّها، أجابت مريم: «من الأكيد أنّنا لم نرحل بهذا الكمّ من الحاجات. ولكنّنا استثمرنا مشوارنا هذا لابتياع بعض الملابس والمقتنيات الشخصيّة والمنزليّة التي تتمتّع بالسعر الزهيد والنوعيّة الجيّدة».
يحلف عاصم إنّهم لم يتسوّلوا شيئاً، أو «يشحذوا» مثلما اتّهمهم أحد المارّة، أثناء تجمّعهم أمام مركز الوصول بانتظار لقاء أقاربهم. وشاركوا في التظاهرات التي تقام ضد العدو الواحد هناك.
الأطفال في لهفة لتفقّد غرفهم وألعابهم أكثر من الكبار. كانوا يطمئنون على أخبار مبانيهم وعقاراتهم عبر الهاتف، لتنقطع هذه الأخبار باشتداد القصف. هم خائفون من أن تكون منازلهم قد تعرّضت للسطو في غيابهم، بعدما سمعوا بحالات كهذه في أنحاء شتّى من الضاحية.
تغيّرت نظرة الكثيرين منهم للمواطن السوري. فالمعاملة التي تلقّوها والرعاية التي أُحيطوا بها كانت مميّزة وإنسانيّة. «تأثّرنا من حيث لا ندري بالصورة التي رُسِمت في لبنان عن «السوريّ»، خصوصاً عقب 14 آذار من العام الماضي».
تقول أمّ فادي: «لم يدعونا نشعر بغربة، بعد أن أتينا متخوّفين من أن تكون لديهم نظرة عدوانيّة معمّمة وحكماً سلبيّاً واحداً على كلّ اللبنانيّين».
بعضهم أقام في مراكز الاتّحاد العمّالي ومراكز أخرى جُهِّزت للنازحين. آخرون قصدوا أقارب لهم أو معارف وأصدقاء. وقامت بعض العائلات باستئجار منزل واحد لها جميعاً، يتقاسمون كلفة إيجاره. «ظلمنا الكثير بهذا التفكير الساذج. وصلتنا كل النكات التي حيكت وأُطلِقت بحقّنا، مفتريةً علينا».
ويتساءل أبو جمال: «لِمَ لَمْ تُطلَق شائعات كهذه على النازحين صوب المتن وجونية وكسروان؟!..أين تكمن مقوّمات الحياة المُرفَّهة أكثر، في جونية أم في سوريا؟!».
لاختيار عائلة أبي علي سوريا مكاناً صالحاً لدرء الموت، ريثما تنفض الحرب غبارها، قصّة خاصّة تُلخّص بالآتي: «لجأنا أوّل الحرب إلى سنّ الفيل. أزعجنا هناك بعض شباب الحيّ، إذ إنّهم بدأوا، فور علمهم بأنّنا نازحون، بالإساءة إلى «السيّد» بكلمات لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة، وبشعارات ورموز حزبيّة مستفزّة لنا. نصحتني زوجتي بأن «أكسر الشرّ» لكوننا ضيوفاً عندهم. لم أستطع.
قصدنا منطقة النويري، فلم يحتمل أبنائي كذلك ما كانوا يسمعونه من بعض الشبّان في الإنترنت كافّيه والحيّ. فقد كانوا يسمعون كلاماً قاسياً من بعض الناس الذين بدوا كما لو أنّهم لا يمانعـــــون في أن تكمل إسرائيل ما كانت تقوم به.