فراس زبيب
لم تعد قرية النميرية قريبة من بيروت. الجنوب كله ابتعد منالعاصمة كما تبتعد الجزر شيئاً فشيئاً من القارات التي تنفصل
عنها. عودة الجنوبيين إلى جنوبهم، التي نشهدها منذ وقف النار، لا تشبه نزوحهم منه. كأنّها ليست الرحلة نفسها في اتجاه معاكس.
الخروج من بيروت باتجاه الجنوب يكاد يكون سهلا. الطريق لا تزال سالكة، والسيارات الكثيرة المتجهة جنوباً لا تقف في طوابير ولا في زحمة. بداية الأوتوستراد، ثم جسر الناعمة المدمر.

تمرّ السيارات واحدة تلو الأخرى من تحته. كل سيارة تعطي الّتي تليها الشجاعة الكافية للمرور. «اقطعه بسرعة» تقول الفتاة الجالسة قرب السائق، تخفض رأسها وهي تحت الجسر، كأنّها تتجنّب صوت ارتطام الحجارة بسقف السيارة اذا وقع الجسر خلال مرورها.
باتت الطريق إلى الجنوب أشبه بساعة رملية، يشكّل جسر الدامور مضيقها، وسيارات الجنوبيّين رملها الذي يتجمّع عند المضيق. هناك متسع لسيارة واحدة على الجسر المهدم. الجنوبيون كلهم، سيدخلون الى الجنوب سيارة واحدة تلو الأخرى عبر الدامور، كأن طريق الجنوب لا تقدر على مواكبة حماسة العودة وشوق الجنوبيين إلى أرضهم.
لا يزال الخوف واضحا في ملامح أهل الجنوب. الخوف من المفاجآت، من البيوت التي هدّمت خلال غيابهم، ومن الناس الذين ماتوا... لكن، داخل السيارات المتوقفة على طريق الجنوب، تجد أيضاً سعادة العودة وحماستها. العودة إلى قراهم التي يعلمون فقط أنّهم لن يجدوها كما تركوها.
"بيتنا مهدم" يقول سائق السيارة التي تحوي أكثر من عشرة أشخاص معظمهم من الأطفال. ويضيف حين نسأله عن سبب إصراره على العودة إذاً: "إن لم يكن بيتي فبيت جاري، وإن لم يكن بيته فالأرض في قريتي أفضل من أي مكان آخر".
يخرجون من سياراتهم حين تضيق بهم، ويتنزهون بين السيارات الأخرى متحدّثين إلى من بداخلها. ابن النبطية يتحدّث إلى عائلة من الخيام، والسيارة المتّجهة إلى صور تخفّف عن تلك المتّجهة إلى الزهراني بأخذ اثنين من ركّابها... الأعصاب تعبة، والانتظار هكذا من دون حراك صعب على أهل الجنوب الذين فقدوا صبرهم لرؤية قراهم التي يبحثون عنها منذ شهر في كل مشاهد التغطيات الإعلامية.
الوقوف ساعات في زحمة السير يجعل الذين ينتظرون داخل سياراتهم المتلاصقة يشعرون بأنّهم في مكان واحد. يتحدث بعضهم إلى بعض، من سيارة إلى أخرى، كأنّهم يجلسون في قاعة كبيرة، كلٌّ على كرسيّه .
الانتظار في زحمة السير تلك لا يشبه الانتصار. هم أهل الجنوب الذين خرجوا من مدارسهم وحدائقهم العامة، كمن يخرج من سجن كان محبوسا فيه. الساعة الثامنة من ذلك اليوم كانت بالنسبة إليهم لحظة الحرية. لم ينتظروا دقيقة واحدة بعد الثامنة. حتى إنّ معظمهم بدأوا بتوضيب أغراضهم منذ الليلة السابقة لوقف النار، كمن يحضّر نفسه لسفر على طائرة موعدها محدّد. لم ينتظروا أن تختفي أصداء الحرب، أو أن يتأكّدوا من مصداقية قادتها.
لا شيء يستطيع منع الناس من العودة إلى بيوتهم، لا شيء. لا انعدام الطريق المؤدية الى قراهم، ولا حتى معرفة بعضهم أنّ بيوتهم لم تعد موجودة فيها. أهل الجنوب الذين تردّدوا كثيراً قبل أن يهجروا بيوتهم وقراهم، وخلال هجرهم إيّاها، يعودون اليوم إليها بكثير من التصميم والحماسة والعجلة.
يرجعون إلى قراهم كمن يعود إلى وطنه بعد غياب في المهجر. يرجعون كأنّهم يهربون مجدداً، كأنّهم، بعدما هربوا من قراهم تحت القصف، يهربون اليوم من الأمكنة التي كانوا فيها مهجّرين، أكثر ممّا كانوا ضيوفاً.
هربوا من بيوتهم، واليوم يهربون إليها. تحويلة بعد الدامور إلى الطريق القديمة الضيقة، ثم تحويلة أخرى إلى الأوتوستراد. كأنّ الطريق إلى الجنوب طرق عدّة، وأهل الجنوب كأنّهم سيّاح في منطقة تغيّرت ملامحها خلال شهر واحد.