نقولا ناصيف
في الأيام القليلة التي سبقت إصدار مجلس الأمن القرار الرقم 1701 في 11 آب، استغرب ديبلوماسيون أوروبيون أمام سياسيين لبنانيين سرّ صمت الرئيس السوري بشار الأسد عن المواجهة العسكرية بين إسرائيل و«حزب الله». ولاحظوا أن اهتمام الإعلام الرسمي السوري اكتفى بالإشادة بالحزب، لكنهم توقعوا من الأسد نبرة عالية في ضوء تطورات الحرب، وخصوصاً بعدما بدت ملامح إخفاق أهداف الحرب الإسرائيلية. وسرعان ما استعاد بعض هؤلاء السياسيين اللبنانيين أمام الديبلوماسيين إياهم، البارحة، تلك الملاحظة، فاستغربوا للمرة الثانية فتح الرئيس السوري النار في كل الاتجاهات: على العرب وفرنسا وأميركا، وعلى فريق 14 آذار في لبنان، وضمناً بحسب ما قال الديبلوماسيون الأوروبيون على «حزب الله» نفسه.
مرّة أخرى يكون من الضروري استعادة عبرة فؤاد افرام البستاني للرئيس الراحل بشير الجميّل عندما كان يدرّبه على الطريقة المثلى لعلاقة مستحيلة مع سوريا وإسرائيل، كان بشير يُعدّ نفسه لرئاسة الجمهورية: لبنان، كما كان في تاريخ جبل لبنان، بين والي عكا ووالي الشام.
ما إن وضعت الحرب الإسرائيلية أوزارها وتراجع والي عكا، حتى تقدّم والي الشام.
في الواقع، أياً تكن ملاحظات الديبلوماسيين الأوروبيين هؤلاء، فهم ــ كاللبنانيين ــ باتوا أكثر من أي وقت مضى وجهاً لوجه أمام رئيس سوري محاط بغموض حكمه، على وفرة مظاهر الصراحة والأسلوب المباشر الذي يطبع مخاطبته السوريين والعالم، والنبرة المتحركة والإيماءات والإشارات المرافقة لمواقفه المعلنة. منذ 26 نيسان 2005 لم يعد اللبنانيون يجدون في الأسد ما كان عليه عام 2000. على نقيض حاد من والده الرئيس الراحل حافظ الأسد، الهادىء بغموض المفاوض الصعب عندما يربح وعندما يخسر على السواء. فسرّ الرئيس الأب لا يقيم في الرئيس الابن: لا يطلق النار على خصم إلا وقد استمال خصم هذا الخصم. كان الرئيس الراحل يفعل ذلك وهو يراعي التوازنات الدولية والإقليمية واللبنانية في وقت واحد. وهو أيضاً السرّ الذي جعل الأسد الأب يمكث في السلطة 30 عاماً، حكم 25 عاماً منها سوريا ولبنان معاً، وأرهب جيرانه العرب وأشعرهم بحاجتهم اليه، وأقنع الدول الكبرى بأنه يحمل سرّ الاستقرار في المنطقة: يطفىء النار بعد أن يشعلها. تحالف مع الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979 عندما كان كل العرب، باستثناء ياسر عرفات، ضدّها. وحالفها مجدّداً في حرب العراق عليها بعدما وقف العرب جميعاً مع العراق. ثم حالف الأميركيين عام 1990 في حرب العراق على الكويت، أورث الأب الابن حلفاً متيناً مع إيران، وعلاقة متأرجّحة مع الأميركيين.
عندما وصل الأسد الابن الى السلطة في تموز 2000، عرف اللبنانيون فيه ملامح مختلفة عن حكم والده الذي ظلّ، في الظاهر على الأقل، في منأى عن تدخّل مباشر وشخصي في الشأن اللبناني. ترك لرجال عهده، المتفاوتي الأهمية والدور والنزق والصلف وأسلوب العمل، كناجي جميل ومحمد الخولي وعبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وعلي دوبا ومحمد المدني وغازي كنعان، كلّ في حقبة مختلفة، أن يديروا حكم لبنان، على أن يكون هو الحكم. عرفوا في الأسد الابن قبل أن يصبح رئيساً ــ وقد أناط به والده تدريجاً منذ عام 1996، الإمساك بالملف اللبناني ــ صورة رئيس محتمل نابذ للفساد في عائلته حتى (لاحق ابن عمّه جميل)، ورافض لكل الفريق الذي حكم من دمشق لبنان (فأقصى تباعاً حكمت الشهابي وعبدالحليم خدام)، وباعث الروح للمرة الأولى في علاقة لبنانية ــ سورية صحيحة. لم يكتفِ بالاعتراف بـ«أخطاء» ارتكبتها سوريا في لبنان، بل تحدّث عن انسحاب تدريجي للجيش السوري من لبنان وفتح أبواب حوار مع الأفرقاء اللبنانيين بمن فيهم بكركي.
وكانت ذروة إشارة تمييز عهده عن حكم والده أن لبنان لم يعد ملفاً في أدراج سوريا، وأن زيارة محتملة للبنان تجعل اللبنانيين يصدّقون ما لم يقدّمه إليهم أحد من أسلافه منذ حسني الزعيم عام 1949، وهو تسليم سوريا باستقلال لبنان وسيادته، عندما زار الأسد بيروت مرتين على التوالي في آذار 2002.
منذ انسحب الجيش السوري من لبنان السنة الماضية أضحى الأسد فجأة مزيجاً من معظم الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم سوريا حتى والده الراحل: أخذ من الرئيس حسني الزعيم فكرة «الخشبة» لإغلاق الحدود بين البلدين، ومن الرئيس أديب الشيشكلي النظرة الفوقية الى السنّة اللبنانيين، ومن الرئيس شكري القوتلي تفويض المواجهة الإقليمية الى الرئيس جمال عبدالناصر إبّان الوحدة المصرية ــ السورية (وقد أضحى هذا الدور لإيران الآن). وفي حقبة حكم البعث أخذ من صلاح جديد نقل الاضطرابات الى داخل الأراضي اللبنانية، ومن والده الراحل كل إرث الدور السوري في لبنان.
وفي واقع الأمر فإن ما أدلى به الأسد في خطاب الثلثاء الفائت (15 آب)، هو مزيج آخر من تلك الصورة الملتبسة لما لا تزال دمشق تريده من لبنان:
1 ــ عندما يضفي على «حزب الله» صورة أداة تريد أن تجعل من الانتصار العسكري للمقاومة انتصاراً سياسياً لدمشق. والرئيس السوري بذلك يريد أن يقول إن القرار 1701 لم يمحُ حدود سوريا مع إسرائيل من خلال «حزب الله». تماماً على نحو مماثل لما تريد أن تقوله إيران من خلال تبرير إصرار الحزب على عدم التخلي عن مخازن صواريخه في الجنوب، وهو أن الصواريخ هذه أوجدت حدوداً لإيران مع الدولة العبرية.
2 ــ عندما يتوجّه ظاهراً الى فريق 14 آذار، وضمناً الى الأميركيين، ليعلن مواجهة مفتوحة معهم على الأرض اللبنانية. وهو أمر كاد يثير القلق، في ضوء شقة خلاف حاد بين الغالبية والفريق الشيعي على تفسير القرار 1701، لو لم يسارع «حزب الله» الى التنصّل من كلام الرئيس السوري. والواضح أن ما يميّز القرار 1701 عن القرار 1559 أن للأول آلية تنفيذية عُنيَ بها الأميركيون بوضعها وجعلها قابلة للتنفيذ خلافاً للثاني الذي لا يعدو كونه إطاراً نظرياً لمواقف. على نحو مماثل لنجاح الأسد الأب في إسقاط اتفاق 17 أيار، قارب خَلَفه القرار 1701 على أنه يقود الى نتيجة مشابهة. وكما في تجربة 1983 كان الوقود لبنانياً، يبدو أن إطاحة القرار 1701 تتطلّب وقوداً مماثلاً.
2 ــ عندما يميّز بين لبنانيين “وطنيين” هم الشيعة، ولبنانيين آخرين من طوائف أخرى «عملاء». الفريق الأول يستحق الوطن، والثاني الإلقاء في البحر.