نقولا ناصيف
بحسب معلومات متوافرة لدى جهات لبنانية واسعة الإطلاع، فإن دولاً عدة ذات صلة بالقرار 1701 لم تبدُ مرتاحة تماماً إلى التسوية التي أجريت على الطريقة اللبنانية لتنفيذه. وهي تسوية اتخذت المفاوضات التي رافقتها اتجاهين متلازمين: أولهما بين الرئيسين نبيه بري وفؤاد السنيورة، وثانيهما بين قيادة الجيش و“حزب الله”، وكان القاسم المشترك بين طاولتي التفاوض هاتين، هو تطبيق القرار تبعاً لما ينصّ عليه بلا اجتهاد أو تأويل خارج نطاق ما هو مطلوب من لبنان تنفيذه.
تبعاً لذلك أُدرجت مهمة الجيش في بسط سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها ومنع أي مظاهر مسلحة غير شرعية في إطار المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني التي قررها مجلس الوزراء في جلسة 16 آب، وكانت موضع تشاور سابق بين بري ومدير المخابرات في الجيش العميد الركن جورج خوري موفداً من قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي رغب الى رئيس المجلس في تكريس هذه المادة مرجعية قانونية لدور الجيش في الجنوب، وقد شدّد سليمان على أن الجيش سيضطلع حرفياً بالمهمة التي ينيطها به القرار 1701.
وعلى غرار ما ورد في البيان الوزاري لحكومة السنيورة في التوفيق بين دعم المقاومة لتحرير مزارع شبعا واحترام الشرعية الدولية (وكان المقصود بذلك ضمناً القرار 1559)، قالت معادلة تنفيذ المرحلة الأولى من القرار 1701 بانتشار الجيش اللبناني جنوبي نهر الليطاني وحتى “الخط الأزرق” ومنع المظاهر المسلحة، وفي الوقت نفسه ترك مخابئ صواريخ “حزب الله” حيث هي جنوبي نهر الليطاني. كانت وجهة نظر رئيس المجلس إبّان تلك المفاوضات أن تطبّق على الجنوب الإجراءات العسكرية نفسها المعمول بها في بيروت، سواء بالنسبة الى منع المظاهر المسلحة غير التابعة للجيش والقوة الدولية واقتناء أسلحة غير مرخصة ومصادرتها وتوقيف أصحابها، أو بالنسبة الى اكتشاف مخازن أو مخابئ أسلحة، بحيث يصادر الجيش كل ما يقع عليه.
كان إصرار المسؤولين اللبنانيين على تكليف الجيش المسؤولية المباشرة وفق ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن، وهو ما أبرزه بري لوزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي، في اجتماعهما في 15 آب، إذ سأله عن الجهة التي ستشرف على أمن المطار والمرافق الحيوية والمعابر البرية. استفسر رئيس المجلس عن مبرر سؤاله، فأجابه أنه يود أخذ علم بذلك.
ردّ بري: “أظنه شأناً لبنانياً”.
قال دوست بلازي: “أعرف أن الأمر يتعلق بالسيادة اللبنانية”.
وبقي الجواب مبهماً إلا في ذهن رئيس المجلس قائلاً للوزير الفرنسي: “قد يرضيك الجواب الذي أعرفه، إلا أن الأمر شأن لبناني تقرره الحكومة اللبنانية”، التي تتمسّك بحصر مسؤولية مراقبة المرافق ومعابر الحدود اللبنانية ــ السورية بالجيش اللبناني.
في حصيلة ذلك أرسى الأفرقاء اللبنانيون المتفاوضون الوجهة الفعلية لتنفيذ القرار 1701 من غير أن يتسبّب بأي انقسام داخلي، ويقود الى هدفه الرئيسي وهو بسط سلطة الدولة على المنطقة التي رسمها القرار 1701 وتأمين الاستقرار عند “الخط الأزرق”. مغزى ذلك أن الجيش يفرض وحده الأمن في الجنوب في مقابل تخلي “حزب الله” كلياً عن عملياته العسكرية ومقاومته، وكذلك عدم إخراج صواريخه من مخابئها، أكانت تحت الأرض جنوبي نهر الليطاني أم شماله.
وفي واقع الأمر، بالنسبة الى رئيس المجلس، لا يقول القرار 1701 بتجريد المقاومة من سلاحها، وهذا المطلب غير مطروح في الوقت الحاضر.
لكن تسوية على الطريقة اللبنانية لم ترق تماماً مصادر رفيعة المستوى معنية، أبدت خشيتها من أن تؤثر هذه التسوية على مشاركة دول عديدة في القوة الدولية طبقاً لملاحظات:
أولها، ما دام المجتمع الدولي قد دعم القرار 1559 الذي نصّ على حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، فمن غير الممكن أن يبدو راضياً عن عدم تنفيذ القرار 1701، مع أن أياً من الأفرقاء اللبنانيين المعنيين بالقرار، ولا سيما “حزب الله”، لم يقل إنه ضدّ تطبيقه.
ثانيتها، أن انتشار الجيش اللبناني في الجنوب خطوة أولى على طريق تطبيق القرار، ولكن من غير إهمال الأهداف الأخرى للقرارين 1559 و1701، وهي نزع سلاح “حزب الله” والميليشيات الفلسطينية. كل ما هو في القرار 1559 ينبغي تطبيقه من خلال القرار 1701.
ثالثتها، تفادياً لأي خطر يمكن أن يهدد السيادة الوطنية وبسط الدولة سلطتها على أراضيها، ينبغي تطبيق القرارين الدوليين، ولكن من غير ممارسة ضغوط مباشرة على الحكومة اللبنانية لإجبارها على القيام بما لا تستطيع القيام به، خشية أن تؤدي هذه الى نتيجة معاكسة.
رابعتها، إن ثقة المجتمع الدولي والدول الرئيسية المعنية بالقرار 1701 بالسنيورة وطريقة إدارته الوضع الداخلي، ينبغي الا تحجب خشية أن تعاود إسرائيل حربها على لبنان بذريعة عدم انتزاع صواريخ “حزب الله”، خصوصاً إذا كان لا بد من الأخذ في الاعتبار ان الدولة العبرية أخفقت في تحقيق كل الأهداف التي رسمتها لحملتها العسكرية منذ 12 تموز: فشلت في تجريد “حزب الله” من سلاحه، وفي فرض سيطرة جيشها كاملة على جنوب لبنان، وتراجعت عن شرط كانت قد أصرت عليه، وهو أنها لا توقف عملياتها العسكرية إلا عند وصول القوة الدولية الى الجنوب، وبدأ جيشها في مغادرة بعض المناطق التي احتلها قبل أن تتسلّمها منه القوة الدولية أيضاً. ولذلك لا تزال إسرائيل تمتلك الحجج التي قد تحملها على معاودة حربها على لبنان باسم استمرار المواجهة العسكرية مع “حزب الله”.
خامستها، أن تسوية سياسية على الطريقة اللبنانية لا بد من أن تؤدي في ما بعد الى سجال متشعّب في أوساط الدول المعنية بالمشاركة في القوة الدولية، بين ديبلوماسيي هذه الدول وعسكرييها، إذ يقارب كل منهم المسألة على نحو مختلف لا يخلو من تعارض، وفي الوقت نفسه من قلق مبرّر. ففيما يدعم الديبلوماسيون تنفيذ القرار 1701 والتساهل أحياناً سياسياً في ضوء إجراءات ومقتضيات يوجبها الواقع اللبناني البالغ التعقيد توصلاً الى تحقيق الاستقرار والأمن في الجنوب وتقوية نفوذ الحكومة اللبنانية، يلح العسكريون على طلب الضمانات الكفيلة حماية الجنود الذين ترسلهم دولهم، فلا يجازفون ويتعرضون للأخطار والتهديدات ويقعون في فك “حزب الله” إذا تمسّك بسلاحه. ولذلك قد لا يرون التسوية الداخلية بين الحكومة اللبنانية و“حزب الله” عاملاً مساعداً لإرسال فرق دولية الى جنوب لبنان رغم التزام هذه الدول هذا الموقف.