صدقت الرؤيا. ها هو محمّد كما تخيّلته في تلك الأمسية، بالكفن الأبيض والوجه «الممرّغ» بالدماء، تحوط بجسده النحيل كومة من الركام تردم عينيه وتحبس أنفاسه.
راجانا حميّةصدقت الرؤيا، ورحل «اللاجئ» السويدي في اليوم التالي، ولا يزال منذ سبعة أيّام قابعاً تحت ركام مجمّع «الحسن» في الرويس.
لم يستوعب الحاج علي (والد الشهيد) نبأ الرحيل المفاجئ لمحمّد. استسلم للصمت مصرّاً على الاحتفاظ بذكريات شهيده لنفسه. ساعتان في منزله في البسطة لم ينطق خلالهما بكلمة تاركاً لابنه حسين مهمّة إخبارنا بتفاصيل المجزرة التي أودت بحياة «صغيره».
غير أن هذه المهمّة ليست سهلة بالنسبة إلى الشقيق أيضاً، وخصوصاً «أنّنا لم نعتد الغياب بعد». هذا الغياب المفاجئ، سبقه غياب طويل اختاره محمّد رغماً عن عائلته «هرباً من الأحداث اللبنانية، وسافر عام 1979 إلى السويد»، بقي هناك «إلى أن هدأت الأوضاع وعاد وأولاده الخمسة إلى لبنان، ابتاع منزلاً في مجمّع الإمام الحسن في الرويس حيث نشأ وبدأ بمزاولة عمله في صناعة المفروشات».
غير أن قرار الاستقرار لم يشفِ غليل العائلة التي لم تفرح بصغيرها. فالأحداث التي هرب منها محمّد «إلى مكان أكثر أمناً» عاودت نشاطها بقوّة. احتار الشهيد في كيفية مواجهة الأمر: «هل يترك عمله ويرحل أم يبقى وتذهب العائلة إلى السويد؟»،.. بعد أيّام من التفكير المضني، صدر القرار: «سافرت العائلة إلى السويد وبقي الوالد في لبنان، متنقّلاً ما بين محلّه في منطقة صفير وبيت العائلة في البسطة».
ثلاثة وثلاثون يوماً قضاها محمّد «ما بين صفير والبسطة»، إلى أن كانت تلك الليلة المشؤومة... يحاول حسين تذكّر اللحظات الأخيرة قبيل الحادثة «سمعنا في نشرة الأخبار أنّ مجلس الأمن وافق على وقف إطلاق النار بالإجماع، انفرجت أسارير محمّد وقرّر العودة إلى منزله في اليوم التالي». في تلك الأمسية، تخيّل حسين الرؤيا المشؤومة «شفت المبنى مدمّر كلياً ومحمّد مكفّن»، يكمل كلمته ويخرج إلى والده المعتكف عن الكلام، يتأمّله قليلاً ويعاود النظر إلى الوالد الصامت ليتابع «خرج محمّد من البيت الساعة التاسعة صباحاً، وعند الثالثة إلاّ ربعاً، طلع الانفجار».
ورد خبر عاجل على قناة الجزيرة «عشرون غارة على مجمّع الحسن في الرويس خلال دقيقتين». يرد «عاجل» آخر: «لا معلومات عن وجود أحد في المجمّع». ولكن، مَن يمكنه أن يخلي منطقة من الحياة؟ فإليها، عادت عائلات «قبل قليل»، ومن بينهم «محمّد». لم يحتمل حسين كالكثيرين الخبر، غادر المنزل على أمل أن يكون «محمّد بعده طيّب». لحظة الوصول إلى المجمّع، تغيّرت الدعوات «يا ريت بنلاقي منّو شي»، خراب كبير، دمار، باطون وأسلاك كهربائية وزجاج. بقايا بيوت كثيرة، وركام ابتلع في جوفه حوالى سبع عائلات.
سبعة أيّام في المجمّع بدوام كامل يقضيها حسين على أمل العثور على بقايا من جثّة أخيه.