فراس زبيب
محمد، ابن ناطور بنايتنا ذو السنوات العشر، كان اول من انتبه الى الفراغ الذي خلّفته عودة نازحي مدرسة حيّنا الى بيوتهم الجنوبية. صار، مُذ أخلوا المدرسة وذهبوا، وحيداً لا يجد ما يفعله في نهاراته الطويلة. كرته البيضاء لم تعد تجد من يلتقطها حين يركلها برجله، فصار يركض اسرع منها، ليسبقها ويلتقطها بنفسه.
حيّنا البيروتي بات موحشاً منذ أن غادره المهجّرون بعد انتهاء الحرب. كأنه بات، بين ليلة واحدة ونهار، حياً مهجوراً من نصف اهله. كأنه مدينة سياحية في فصل الشتاء، او قرية صغيرة نزح معظم اهلها الى المدن المحيطةما فقده حيّنا لم نكن نعرف، خلال ايام الحرب، أننا نملكه. خلنا، في تلك الأيّام، أنّ عجقة المهجّرين سلبت الحيّ سكينته. لم نكن نعرف أنّنا نملّ هذه السكينة أحياناً، وأنّ الحياة في حيّنا فيها حذر المدن وصمتها، وأنّها تخلو من بساطة القرى وعفويّة أهلها.
أخرج إلى شرفة شقّتنا المقابلة لمدرسة «إيليت»، وأنظر إلى الشارع الصامت نظرة الواقف على الأطلال.
منذ بضعة أيّام فقط، كان النازحون ينتظرون عودة التيار الكهربائي كمن ينتظر طلوع ضوء الصباح، في ليلة أرق لا نوم فيها. كانوا في العتمة، يجلسون متقاربين، كما لو أنّهم يعوّضون بالسمع واللمس، قلّة الرؤية. في العتمة، كانوا يحتلّون من المدرسة زواياها. لا ينتشرون فيها، ولا يصدرون أصواتاً مرتفعة. كأن عددهم في الظلام يقلّ.
في عتمة الـ«تقنين»، لم يكن عندهم شمعة. حين تعود الكهرباء في الساعة الثانية عشرة ليلاً، كانوا يقومون فجأة من تقوقعهم، وينتشرون في المدرسة. الأولاد يخرجون من الصفوف إلى الملعب، والرجال يتركون الشاي والكلام، ويقومون...
الأولاد كانوا يسهرون أكثر في الليالي التي يعود فيها التيار الكهربائي متأخّراً، في منتصف الليل. السهر في المدرسة في هذه الليالي كان يطول. فكأن عودة التيّار، وحلول الضوء محلّ العتمة، كانا يعيدان الوقت بضع ساعات الى الوراء في لحظة، فيصير الوقت أبكر، بغضّ النظر عن الساعة وعن مكان عقاربها.
وحدهنّ النساء كنّ ينتظرن عودة التيار ليخلدن إلى النوم. عودة الضوء بالنسبة لهنّ كانت موعداً مع الوقت المتأخر الذي ينتهي نهارهنّ فيه، ويبدأ ليلهنّ.
منذ بضعة أيّام فقط، كان ملعب مدرسة «إيليت» أشبه بساحة قرية جنوبيّة مزدحمة دائماًً، والصفوف أشبه بالبيوت الصغيرة التي تطلّ شرفاتها على الساحات، والتي يعلّق عليها الغسيل الملوّن، وتطلّ منها النساء مناديات أولادهنّ ليصعدوا الى النوم.
الأمّهات في مدرسة «إيليت» كنّ حزينات، والأولاد كانوا يلعبون. هؤلاء، لن يتذكّروا من الحرب إلا اللعب، وأصوات الصواريخ التي كانت تسقط على الضاحية الجنوبية، والتي كانت تُحدث بلبلة في ملعب المدرسة، في كلّ مرة. كانوا يركضون إلى أمّهاتهم، أو إلى أي أمّهات، وهم يضعون أيديهم الصغيرة على آذانهم. كان خوفهم أكبر من صوت القذائف، كأنّه خوف من دويّ آخر، أعظم، كانت تذكّرهم به فقط انفجارات الضاحية.
وكانوا يتنزهون داخل المدرسة كما يتنزهون في القرى. ويلقي بعضهم التحية على بعض كأن لكل واحد منهم بيتاً في زاوية مختلفة من القرية نفسها. وكانوا، حين يخرجون احياناً من بوابة المدرسة الى حيهم الجديد، يمسون فيه غرباء، مهجّرين، مختلفين.
أبو خليل فرش رصيف دكّانه بمنتجات، منها المياه والخبز، بكميات كبيرة. كأن الحيّ الذي يقع خلف «ثكنة الحلو» كان في تلك الأيّام حيّاً وقرية.
محمد، ذو السنوات العشر، فقد أصدقاء الحرب، وصار وحده يلعب بالكرة البيضاء. وهنادي، الشابّة المتطوعّة التي كانت تأتي إلى المدرسة لتلعب مع أولاد النازحين، لم تجد أحداً في اليوم التالي حين جاءت.
فرحت لعودتهم، وحزنت لذهابهم. وحيّنا بات، بعد انتهاء الحرب، كقرية فرغت من أهلها بسبب الحرب.