جاد نصر الله
انتهت الحرب وخرج أبو شوقي (أحمد عبد الله) من «أرضية» منزله إلى فضاء الجنوب الأوسع. عاد ليرافق الشمس في رحلة شروقها بعد كوب حليب صباحي. يتجوّل في حولا متّكئاً على عكّازه الخشبي وسنواته الثمانين المثقلة بحروب كثيرة. يعرفه أهل تلك القرية الحدودية جيداً. فلعله الناجي الوحيد من مجزرة 1984 الذي يستطيع أن يروي فصولها الدموية.
يتنزّه اليوم في شوارع القرية التي يناديه جميع أهلها بلقبه الجديد: «الصامد». فأبو شوقي بقي في دارته طوال الأسابيع الخمسة الفائتة، ورفض النزوح حتى بعد اشتداد القصف وخلوّ الضيعة من أهلها. «أشرف لي أن أموت في أرضي من أن أُقصَف وأنا هارب على الطريق»، يطلق عبارته هذه بعنف مجابهاً كُلَّ عاتبٍ بالتأكيد على صواب فعلتهقبل أكثر من ستّين سنة، تطوّع أحمد عبد الله، ابن السبعة عشر ربيعاً في الجيش الإنكليزي. «كذبت عليهم ليقبلوني، فأخبرتهم أنّ عمري ثماني عشرة سنة». لم يحلم بتغيير العالم، ولا بارتداء العباءة الثورية. القضية لم تكن قضيته. كُلُّ ما أغراه وأترابه هو ما وفّرته لهم الخدمة العسكرية من مال وملابس وأكل في وقت قضَّت فيه المجاعة مضاجع ذويهم. قاتل حاملاً الرقم 20578 في لبنان وفلسطين ومصر وليبيا طوال ثلاث سنوات قبل عودته للاستقرار في مسقط رأسه. تزوّج، وكانت طفلته تبلغ من الأيّام عَشَرَة، عندما اقتحمت فرقة غولاني الإسرائيلية القرية، وأعدمت شبانها ورجالها. نجا أحمد مع قلّة من رجال الضيعة الذين استطاعوا الفرار إلى القرى المجاورة.
يقارن أبو شوقي بين الأمس واليوم، بين عملية محدودة وهجوم ثلاثي الأبعاد، برّي وبحري وجوّي، فيخلص إلى أن الحرب الأخيرة أهون بكثير من سابقاتها!، «في الماضي لم نجد من يحمينا، بضعة شبّان يحملون بنادق غير صالحة فوجئوا بالفرقة الإسرائيلية، وقد أصبحت في عقر دارنا. أمّا اليوم فقد انعدم الخوف بوجود رجال المقاومة».
في الثالث عشر من تمّوز، تسارعت وتيرة الأحداث. التجأ أبو شوقي في «الأرضية»، وهي غرفة وحيدة في الطابق السفلي كان قد جهّزها وزوجته أمّ شوقي من قبل، استعداداً لما يمكن أن يحدث. حمل معه الراديو والمخزون الكافي من البطاريات. «استمعت إلى كلّ الأخبار.
تابعت المجريات الميدانية والسياسية بالتفاصيل». كان قادراًَ على تمييز صوت القذائف بعضها من بعض. يقول إن «بعد هذا العمر صرت قادراً على معرفة صوت القنابل العنقودية من الصواريخ الانشطارية». كانت النشوة تغمر جسده لدى سماعه انطلاق صواريخ المقاومة. «اطمئنّوا، إنّها الكاتيوشا».
تعبق الغرفة برائحة القلق والانتظار. نور الشمس المنسلُّ من فتحة في الأعلى ينبئ بالمجهول. لا تخفي أم شوقي لحظات خوفها. كانت تفكر طوال الوقت بأبنائها الاثني عشر، وترسم سيناريوهات قلقهم. «كيف أخبرهم بأنني ما زلت حية أرزق؟». كفكف أبو شوقي دموعها، ووعدها بأن الضيعة لن تُدمّر كلياً. لم يفكّر بنفسه كثيراً. عانقت أذناه مذياع الراديو منصتةً إلى رسائل أمين عام «حزب الله»: «كان السيّد متيقّناً من النصر. كنت أطمئنّ إلى سماعه. لكن الخوف على حياته أصابني بالأرق».
أطبقوا على نفسهم 27 يوماً قبل انتقالهم لإكمال ما تبقّى من أيام العدوان عند صديق من أبناء البلدة، نزولاً عند إلحاح الجميع. لم يشعروا بنقص في الغذاء. هم أبناء الأرض، يُعانِدونَها ولا يستسلمون. «حضرت الأطباق يومياً. وحين لم يعد هناك ما يمكن طبخه، أكلنا البندورة مع خبز المرقوق»، تحكي أم شوقي. رأيها أن كل هذه الأمور تفاصيل لا تُحسب، «راح الكثير يا ستّي، بيوت وأرزاق، لكنّ المهمّ أن يستمر الشباب». لم تغمض عينا أم شوقي قبل إعلان وقف إطلاق النار. جلسَتْ تعدّ الدقائق. خرجت وجمعت شظايا القذائف الانشطارية المنثورة في تربتها، وقدّمتها لزوّارها مع أكواب الشاي.
يرتاح جدّي أبو شوقي في فيء العريشة أمام باب الدار. يرتــــدي نظاراته الشمسية، وقبّعته الإنكليزيّّة الطراز. قسمات الوجه الجنوبي تشي بالإرهاق. صوت قوي يصدح في السماء، «إنه الرعد ولكن ليس رعد 1»، يضحك. يهطل مطر صيفي حار فلا يغسل كل الأحزان. رائحة الأرض البور تفوح، وطعم البارود ما زال عابقاً في الصدور.