بيسان طي
“إلى أولادي”... عبارة على رسالة وُجدت بين ضمادات جريح وكيس
مصل وبعض الحاجيات “في مكان ما” في عيتا الشعب، قضى فيه أستاذ مادة الكيمياء ساعاته الأخيرةكان جريحاً، وكان يدرك أن الموت آت. لم يبح لرفاقه في المقاومة بما أدركه. اختلى بنفسه وكتب الرسالة التي أرادها سرّاً، يقرأها أبناؤه فقط. قد تكون إرشاداته الأخيرة ليواجهوا الحياة الصعبة، وربّما هي دعوة لهم ليحفظوا الوطن، أو كلمات حنونة من أب اشتاق لرؤية الأغلى على قلبه ورحل قبل أن يلقي عليهم آخر تحية.
وما يبوح به المقاومون أنه الأستاذ الذي علّم آلاف التلامذة الكثير عن المعادلات الكيميائية والمواد التي تتخالط وتتفاعل، وختم حياته بدرس سيحفظه كل أبناء القرية بأنّ تراب بلادهم يرفض التفاعل مع مخططات عدو أدمى القرية سنوات طويلة.
في ليل عيتا الشعب الحزين همس عن حكايات المقاومين. بضع مئات من المقاتلين كانوا في عيتا الشعب ومحيطها يصدّون المئات وأكثر من الجنود الاسرائيليين. يعرفون أنهم سيقومون بإنزال أو تسلّل إلى القرية، بعدما تقوم الطائرات بقصفها بشكل عنيف، فيستعدون لمواجهتهم ويعرفون أن الاسرائيليين سيتمركزون “في أقرب مكان للهروب”.
أهالي القرية صاروا يعرفون ما اختبره أبطالهم “جنود وحدة غولاني العظيمة جبناء يخافون القتال البري، نادراً ما يطلقون الرصاص بشكل مركز، وحين يُضربون يعلو صراخهم ويركضون في مجموعات. متفوقون في الهرب” حتى صار المقاومون يتساءلون “لماذا يأتون للقتال وهم ليسوا له؟”.
في المقابل كان المقاومون هم أهل القتال، يتوقعون الاستشهاد ولايخافون منه، “لكننا نحب الحياة” شدد مقاوم لم يهجر القرية طيلة أيام العدوان. وهمس بأنه كان كلما فكر بالموت خجل من دموع أمه، “كلما تخيلت دموعها ازددت تعلقاً بالحياة واندفاعاً في القتال”.
خجل المقاوم من دموع أمه ولكنه ذرف دموعاً كثيرة في العدوان، بكى رفاقه الذين استشهدوا، وروى رفيقه أن أياً منهم لم يكن يريد “أن يموت رخيصاً”، أي إنهم كانوا يصرون على القتال.
يقول المقاوم كلمة “القتال” فقط، لا يزيد عليها صفات. لا يتحدث عن البسالة أو العنف أو الشجاعة. يقول ببساطة وتواضع شديدين: “قاتلنا”. “البطولة” كما يصفونها فعل إنساني ينجزه رجل متواضع مؤمن بقضيته.
قاتلوا طويلاً وشوق بعضهم إلى بعض يتملك قلوبهم، ليس شوقاً إلى حمل السلاح. يقول أحد المقاومين: “عندما توقف القتال شعرت بأن الحياة بدأت من جديد. كنت أعيش بين قوسين خلال العدوان”. وبين القوسين، تجربة إنسانية غنية، فيها الكثير من الشجاعة كشجاعة المقاوم الذي حمل رفيقه الجريح بيد وأطلق الرصاص بيد أخرى، وبعد يومين استشهد. وفيها قصة مقاوم آخر لم يحمل إلاّ صورة لطفليه كان يخرجها أحياناً ليلقي عليها نظرة واحدة ثم “ينتزعها” من أمام عينيه ويخفيها.
بين القوسين قصة المرأة الجنوبية التي استشهد زوجها واختبأت “في مكان آمن” مع المقاومين طيلة فترة القتال وكانت تعد لهم الأكل. وكانوا هم يعجنون ويخبزون ويعدون المناقيش، ويذبحون الخراف أو يبقون أياماً من دون طعام ويتناولون قطرات من الماء، ويرصدون تحركات العدو ويقاتلونه.
وبين القوسين لحظات عاشها مقاوم كأنها جزء من فيلم حركة. كان خلف سور أحد المنازل وجنود العدو داخل الحديقة فنبهه رفيقه إلى ذلك، فارتفع فوق السور ورماهم بالرصاص دون أن يقاوموه “كل ما فعلوه أنهم وَلْوَلوا وحملوا الجرحى وهربوا”.
أقفل القوسان وما زال المقاوم يردد ما كان يقوله لرفاقه خلال القتال “عليّ أن أنجب الكثير من الأطفال ليحاربوا إسرائيل”. ويؤكد القناعة التي توصل إليها من خلال المعارك “أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر صنعها العرب، فالجيش المدجج بأرقى الأسلحة، جنوده في البر مقاتلون من ورق”.