فيرا يمّينالسابعة صباحاً، انطلق الباص من زغرتا، «فالشباب أعطونا موعداً عند الحادية عشرة»؟ الوقت في الضاحية ثمين، فالمنطقة تحوّلت إلى محجّة للزوار. محطة صغيرة في الكورة حيث ينتظرنا نزيه وجورج، وأخرى في البترون حيث ينتظر زياد وصديقه. ضاق بنا الباص، ولم تضق الدنيا، والانتظار في عجقة السير تعوّدناه في أيام الهزيمة، فلماذا نشتمه في أيام النصر؟
على طول الطريق سيارات لنازحين عائدين يلوّحون بالنصر ويسألون الى أين؟ نصرخ: «مثلكم عائدون». سيارات أخرى تلقي التحية بمودّة وأخرى يشيح ركابها النظر. بين سيارة موالية، وأخرى محايدة، وثالثة معارضة، يمضي الوقت فلا نشعر بتحويلة البترون، ولا بالاختناق في جبيل «محرقة الوقت»، ولا في حالات «حتماً». بعدها ننطلق رسمياً إلى أن نصل الى الغبيري، ملصقات النصر بالأحمر القاني بالانكليزية والعربية، الكل يبتسم فيعلّق ابراهيم: «هنا كلّهم سيّد»، يتنفّس جو الصعداء: «هيدا جوّنا، هيدا نحنا».
أخذنا يسارنا. شابان على دراجة نارية لوّحا لنا لإرشادنا الى المدخل، عمال ومتطوعون على جانبي الطريق يرفعون شارات النصر، ويرحّبون: «أهلاً بالأوادم، أهلاً بالشرفاء، بالمقاومين من أرض الشمال». دمار وركام ورماد و«لكن ما همّ؟ ستقوم الضاحية من تحت رمادها»، يقول الحاج شوكت .
بيارو يشهر الكاميرا، ويبدأ بالتصوير «فقسة، فقسة»، ومثله يفعل ميشال «الصورة أبلغ من الكلام»، فلا مشهد يشبه الآخر، ولو أن الدمار واحد والمعتدي واحد. نمشي ونضيّف كمامات: «تهمّنا سلامتكم وأنتم أبناء الربع». ساحات مفتوحة للزوار، وصحافيون من كل العالم، آسيويون. على أرض الضاحية الكل متعاطف. يقول سيمون، وهو صحافي فرنسي: «تحاول أن تكون محايداً، لكن انسانيتك تدفعك الى الانحياز»، ويثني علينا لأننا «مسيحيون ومع حزب الله».
مشينا من بوابة بلديّة حارة حريك الى استديو المنار في الهواء الطلق. في الاستقبال مدير المحطة الحاج عبدالله قصير. تسلّقنا تلّة الركام لنرى: «هنا كان تلفزيون المنار»، والتعبير الأصوب: «هنا كان المبنى السابق للمنار»، طالما أن البثّ مستمر والصورة أنقى. على التلّة رجل يحمل صليباً خشبياً، وعليه إنجيل، وقرآن، وعلامة النصر، ويقول: «عشنا وشفنا اسرائيل مهزومة» . إلى يمين «المنار» مقهى تحوّل الى رصيف: «هنا إذاعة النور».
نكمل السير نحو استراحة في «مخيّم المتطوعين». شربنا ماء، واعتمرنا قبّعات «نصر من الله»، وحملنا صوراً للسيد، وأكملنا. شارع الشهيد راغب حرب: هنا الأمانة العامة ، وهنا بيت السيد وهناك بيت ابنه. هنا مكتب الدراسات، وهنا يتوقّف القلب أمام هول الدمار، والحقد الذي أراد أن يضرب عمق الأرض التي من رحمها يولد مجاهدون وأبطال، وقادة، وشهداء، وشعراء. وبيت من هنا؟ «هنا بيت السيد محمد حسين فضل الله».
بين مبنى وآخر، محال خلناها مفتوحة. واجهاتها تحطّمت، والبضاعة لا تزال «مستوفة» وسليمة، ليس فقط من الدمار، بل من أي شكل من أشكال السرقة. في أقصى الشارع محل خلوي لم تبق منه سوى «آرمة»: «محل السيّد». فعلّق نزيه بالقول: «المهم أن السيّد لا يزال واقفاً».
ودّعنا الشباب. استقللنا الباص. أطلق المختار إشارة الانطلاق، وطوني يقول: «لننطلق على مهل»، وكأننا نخاف على الأرض من ثقل إضافي، وطأناها ولو استطعنا لحملناها على الأكف كما نحملها في القلب.
من جهة ثانية، وزّعت «مؤسسة عامل» بياناً اعلنت فيه «ان مؤسس منظمة اطباء بلا حدود الوزير الفرنسي السابق برنار كوشنير جال يرافقه رئيس مؤسسة عامل الدكتور كامل مهنا على بلدة الخيام، واطلع على الاضرار الجسيمة التي لحقت بالمرافق العامة والبنى التحتية والمنازل»، جرّاء العدوان الاسرائيلي على لبنان. كما زار منطقة الضاحية الجنوبية وأعرب عن امله في التوصل الى «سلام دائم بعد الحرب الاخيرة على لبنان»، وتمنى ان يؤدي «هذا الفصل الجديد الى تعزيز السلام وبلورة رؤية سياسية للمشكلة».