في زمن الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل على المياه الإقليمية اللبنانية، يُنكب أكثر من ثلاثمئة صياد (لبناني وفلسطيني) في مدينة صيدا بمأساة حقيقيةصيدا ــ خالد الغربي
توقف الصيادون عن ممارسة عملهم اليومي منذ بدء العدوان في الثاني عشر من تموز الماضي.
اشتاق «البحّارة» للتجذيف باتجاه ما يكفل لهم «سترة أولادهم وعائلاتهم». كما اشتاقت تلك المراكب و«الفلك» البحرية التي لم تعرف الكلل يوماً، ولا النوم كما هو حال السمك، الى رحلات تمخر عباب البحر الذي اشتاق بدوره الى «الرياس»، وهم الذين لم ينقطعوا عنه أكثر من سبعة عشر يوماً عندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982وعلى الرصيف قبالة الميناء شباك مهندسة بشكل إيجابي، ومراكب تتعدد أسماؤها. وبين هذه الأسماء ما يدل على الواقع الراهن كالمركبين «صمود» و«ثائر».
يتحلّق أربعة من الصيادين أمام طاولة مربعة وضعت عليها أطباق الفول البلدي مع المرطبات، ويقول أحدهم، أبو حسن، الذي اعتاد في مثل هذا الوقت أن يكون داخل «سوق السمك» بائعاً لغلّته: «طالت الغيبة... انظر ما أحلى البــــحر، والله اشتـــــقنا».
في مكان آخر من زوايا الرصيف، يقول الصياد مصباح أحمد شعبان: «أنا بحري أباً عن جد أُمارس مهنة الصيد منذ 52 عاماً. كان عمري تسع سنوات عندما نزلت إلى «الكــــــار». لم تمر علينا أياماً صعبة كالتــــــي هي الآن. خسائرنا فادحة ولا تعوّض. صرنا متوقّفيــــــن عن العــــــمل أربعين يوماً، ولـــــدينا عيـــــال وبـــــدنا نـــــعيش».
ويتابع مصباح: «المشكلة أنه ليس باستطاعتنا نحن البحرية أن نعمل بأية شغلة ثانية».
يُعد شهرا تموز وآب من أهم أيام عمل الصيادين، إذ تكثر الأسماك وتتوافر بأنواع متعددة. وهذا يعني أن الحصار «ضربنا في الصميم»، كما يقول مصباح، «فهذان شهران للتصميد (أي ادّخار المال)»، آملاً في أن تُحلّ المشكلة لأن من «الممكن أن نعوّض بشهري أيلول وتشرين». ففي الأحوال الطبيعية، كان لـ«الرزقة» أن تكون بين أربعين ألفاً ومئة وخمسين ألف ليرة في اليوم الواحد، بحسب مصباح.
وما يزيد معاناة هؤلاء الصيادين أنه لا أفق قريباً لرفع الحصار، في ظل الضغوط التي تمارسها إسرائيل. لكن أيضاً، لا تعويضات على الصيادين من جراء خسائرهم: «ما في حدا عم يعوّض علينا ومنسيين ومتروكين لمشيئة الله»، يقول أبو حسن القبرصلي، مضيفاً: «شو بتعمل الكرتونتين؟ (يقصد علبتين من المواد الغذائية والاستهلاكية وزعتهما مؤسسات خاصة). نحن عملنا يومي، فاليوم الذي «نكسح» (أي الإبحار) فيه نأكل، واليوم الذي لا نعمل فيه لا نتمكّن من إطعام عائلاتنا».
ويحذّر أبو حسن قائلاً: «إذا بقيت الحال كذلك، شو منعمل منبيع أولادنا أو شو... منسرق؟».
أما الحاج عريني الذي يتكل في عيشه على بيع السمك بالقرب من السوق، فيقول: «لم يعد باستطاعتنا العيش وقد تعترنا ومنينا بخسائر عم نبيع اللي فوقنا وتحتنا ومش عم نسمع حدا عم يحكي عن الحصار... ما هيدي فيها انتقاص للسيادة! ومين بيعوّض علــى هــــذا الشـــعب المســــكين».
كما يلفت الى وجود مشكلة أخرى في حال رفع الحصار تتمثل بالقدرة على إقناع المواطنين بأن السمك سليم ومعافى وأن البحر غير ملوّث وأن شراء الأسماك لن يضر بصحة البشر.
الحركة الصاخبة التي كانت تدب داخل «سوق السمك» حيث كانت تصدح أصوات المنادي لـ«المزاد العلني» تحولت الى جدار ثقيل من الصمت لم يعتده ذاك المكان.
المقاهي الملاصقة للميناء تحولت الى ملاذ للصيادين يتشاطرون فيها وجعهم وهمومهم، ويمنون النفس بتمضية الوقت وهم يشرعون نظرهم الى المجهول كمن يخاطب البحر في موجة اشتياق.
وخلف ابتسامة ذاك الشاب العشريني الذي يقوم بخدمة الرواد من الصيادين في مقهى جانبي، ثمة إنذار ما يوجّهه لأحد هؤلاء ولكن بكثير من اللباقة والاحترام وبالهمس: حسابك أصبح كبيراً يا أبا حسن. فيجيبه الأخير بصوت عال: «غداً بتنفرج ومنسدد الحساب، وقول لأبو أحمد (صاحب المقهى) بدو يتحملنا شو منعمل»!
ليس البحارة وحدهم من ينتظر باب الفرج. فالقطط أيضاً تنتظر المراكب العائدة، حتّى يمنّ عليها الصيادون، بعد ظفرهم بالرزق، «وجبات» من الأسماك التي ليس لـــها سوق ولا تباع.