مي مكارم
والد زينب كان «عمره 65 سنة عندما بنى البيت للمرة الثانية بعدما تهدّم في حرب الـ 16» (العدوان الإسرائيلي على لبنان في نيسان عام 96 الذي استغرق 16 يوماً وانتهى بعد يومين من حدوث مجزرتيّ المنصوري وقانا الاولى). ستعيد زينب تعمير البيت للمرة الثالثة بعدما قصفته الطائرات الإسرائيلية هو وضيعتها مروحين حيث اصطادت طائراته الحربية شاحنة «بيك آب» محمّلة بالأمهات والأولاد والحبالى والمسنّين.
قد لا تستطيع زينب هذه المرة سوى بناء غرفة واحدة ومطبخ وحمام لإيواء العائلة كلها. لكن الاهمّ هو الرزق. كيف تستطيع إعادة إحيائه، كيف تعيد زرع أشجار الزيتون المغمور بألف حبة وحبة، وشتول الدخان التي لا تستطيع إحصاء أعدادها الممتدّة أثلاماً على كامل السهل. الرزق المحروق حرقة في قلبها وجنى العمر الذي لا يُعوّض، وقد لا يسترزق منه العمر الباقي.
الحاجة صباح تكتفي بشادر تمدّه فوق رؤوس أولادها لتبكي عائلة ابنها التي أبيدت عن بكرة أبيها، لكن الحقل المحروق أمام ناظريها لن تستطيع دموعها أن ترويه وتعيد اخضراره. كيف يمكنها زرع زيتونة «حاملة وجاهزة لتُقطف حباتها». فقدان الرزق أقصى أنواع اليتم.
لرجال المقاومة كل غال ونفيس، والدعاء الصادق والعزّ الممتشق. لكن الرزق لا غنى عنه، حيّ يكبر كما يكبر الاولاد، مثلهم، إذا مات لا يُعوّض، وإذا ذهب ترك العمر في عراء حقيقي. «أليس رمز الحياة شجرة»، تسأل صبية كأنّما تعيد تسميع نص أو قصيدة شعر من كتاب الأدب للصفوف التكميلية. تتنهّد إحدى النساء وهي تهمّ بالانضمام إلى الحلقة وتذكّر الحاضرين بأنّ «الرزق من عند الله. فهو العاطي الرزّاق».
تدخل علينا زائرة أخرى تحمل ابنتها الصغيرة على خصرها. الكل يرحّب بـ«أم لمى»، ويُسكب الشاي للمرة الثالثة وتدور بعض السجائر من يد إلى أخرى ويدور معها سؤال على شفاه عديدة عن حال زوجها.
يوم مجزرة مروحين، قرّر زوجها ارسال والديه العجوزين وابنته لمى وزوجته الحامل في الشهر الثالث الى بيروت، في موكب ضم شاحنة المجزرة. اما هو فقد صمّم على الاّ يترك البيت خالياً والرزق سائباً من دون أصحابه. لكن قصف الطائرات طاول صاحب البيت ويتّم رزقه.
بالنسبة الى الجنوبيين، خلال النزوح وبعد العودة، مصير الرزق كان الهمّ ــ الهاجس والحزن العميق، لا يوازي ضياعه إلاّ فقدان الارواح. تقول مريم «تحصلين على مواد البناء جاهزة للتعمير، لكن كيف تحصلين على اشجار مثمرة وشتول خضراء ناضجة ونضرة تكون جاهزة للقطف، ولقمة العيش لأفراد الاسرة كلها؟». الرزق جنى العمر صار حرقته، ربما مدى العمر للكثيرين.