strong>بدأت ورشة جمع القنابل العنقودية في يحمر قبل عودة النازحين إليها، لكنّ المهمّة صعبة وطويلة،وموسم التبغ مهدّد بالتلف
كامل جابر

«أدخلوا إلى البيوت، تفجير قنابل...». صوت ينبعث بين الحين والآخر، محوّلاً بلدة يحمر (الشقيف) إلى ساحة صمت لا يقطعه غير دويّ التفجير. ثمّ تنفرج الطريق أمام الأهالي والسيارات المحبوسة، على بعد مئة متر، تفادياً لإمكان وصول شظايا القنابل العنقودية، التي زرعها العدو في أرجاء يحمر، كمن يزرع البزر في حقل قمح. إنه النمط الذي تعيشه البلدة ذات المدخل الوحيد إليها، من أرنون، وقبلها من كفرتبنيت، منذ وقف إطلاق النار، بعد أيام عاصفة من العدوان المستمر عليها، كانت كفيلة بتغيير بعض معالم البلدة وأحيائها.
ورشة جمع القنابل العنقودية في يحمر، سبقت أي رجوع للنازحين، بعدما غطّت المئات منها الطرق ومداخل البيوت وشرفاتها، وغرفها، وحدائقها وحقولها، إلى حدودها الجغرافية. وتسبّب انفجار بعضها في اليوم الأول من عودة النازحين، بجرح خمسة، واستشهاد الشيخ يوسف خليل من كفررمان، بينما كان يجمعها محاولاً فتح الطريق أمام العائدين. لهفة أبناء يحمر إلى العودة إلى بيوتهم، وإلى حقولهم، للملمة ما يمكن من مواسمهم الزراعية المنكوبة، تشبه من يدخل إلى النار حافي القدمين. ولذلك، أخذ فريق «ماغ»، بالتنسيق مع المكتب الوطني لنزع الألغام في الجيش اللبناني، المبادرة إلى بدء عملية تنظيف كبيرة من القنابل العنقودية في طرق البلدة، ثم في أحيائها، في مهمة تكاد تكون أصعب من إزالة الألغام التي يتولّاها الفريق في مختلف المناطق الجنوبية، منذ نحو ست سنواتدخلت سكنة علّيق، أمس، إلى بيتها المدمر في يحمر، لإخراج بعض المستندات الخاصة، عبرت الحقل، غير متنبّهة إلى وجود القنابل العنقودية قرب قدميها. وأتى صوت «ماغنس» السويدي، المستشار الميداني لفريق «ماغ» يطلب منها التوقّف. دخل باحة الدار وأخرجها قبل أن تدوس على القنبلة. ويلفت ماغنس إلى أن «صعوبة جمع القنابل وتفجيرها تكمن في وجودها في منطقة مأهولة، وبأعداد كبيرة جداً، توجب علينا في كثير من الأحيان تفجير كل قنبلة على حدة، بعد إجراء عزل وتنبيه وقطع الطريق. وهذا يتطلّب المزيد من الوقت. نعمل بالتعاون مع البلدية، طلبنا خرائط البلدة لنمسح ما ننظّفه، ونحدد الأولويات، أعتقد بأن عملاً طويلاً سيكون في يحمر، وخصوصاً أننا نعمل فريقاً واحداً بالتنسيق مع الجيش اللبناني، البلدة بأكملها قد تتحول إلى حقل كامل، ومن أجل ذلك وضعناها في الأولويات».
يفجّر «ماغ» القنابل العنقودية من خلال صاعق «وإذا أتتنا أموال التبرّعات التي تساهم في نفقاتنا، قد ننتقل إلى تفجير القنابل الكبيرة وصواريخ الطيارات غير المنفجرة، هذا الأمر يحتاج إلى كلفة أكثر»، يقول ماغنس.
وعلى جانب مواز، تقوم فرق الهندسة في الجيش اللبناني بأعمال جمع وتفجير مشابهة، في أحياء نالها من التدمير الحظ الأوفر، ولا سيما في محلة «الشرابيك».
في حقول مزروعة بالقنابل العنقودية، لا تزال خيطان التبغ السمراء متدلية على الجدران المدمّرة أو المتشظية من القنابل. بعضها قد يصلح لـ«التدنيك»، وأكثرها تلف، إذ إن شظايا القنابل العنقودية لم تترك صغيرة أو كبيرة في يحمر إلا مزّقتها، وكان حظ خيطان التبغ كحظ الشتول في الحقول، بعدما يبست أوراقها أو ذبلت، قبل أن تُقطف لتُشكّ خضراء طرية. بعض وريقات من هنا وهناك لملمها أصحاب الحقول، محاولين الاستفادة منها قدر الإمكان.
يصارع ماجد أبو دلة وعائلته بعض الوقت لاستدراك ما يمكن من أوراق موسم «الدخان»، بعدما جمع الأقارب لهذه المهمة في بيته المتشظّي هو الآخر. يقول: «عدت لأجد معظم الموسم قد تلف، أحاول إنقاذ ما يمكن، وخصوصاً أن ما علّقته قبل العدوان ضرب أو في حقل محفوف بالخطر، أعلّق الخيط على المنشر وعيناي محدّقتان بالأرض، توجّساً من القنابل التي تختبئ في الأرض الطرية. أما التعويض على ما لحق من أضرار، لا يبدو قريباً بعد، ومع ذلك عدت إلى بيتي».
تتوسّط علا حسين داود كومة من التبغ في بيت والدها شبه المدمر في محلة «شوشبا» عند الحدود الغربية لبلدة يحمر، تساعدها والدتها خديجة، التي أدارت ظهرها، عن قصد، للدمار الذي حلّ بمنزل العائلة ومنازل الأولاد، وتقول: «المهم سلامة الأولاد والأحفاد، كل بيوت الدنيا لا تساوي جرحاً في قدم طفل. لكن يجب أن نستر أنفسنا في بيوتنا التي باتت مكشوفة على العراء، بفعل ما تعرّضت له من قذائف».
تحمل علا خيط الدخان، تعلّقه في الغرفة المخصصة، التي نخرتها الشظايا؛ ثم تجول في بيت العائلة، فبيتي شقيقيها؛ محاولة، هي الأخرى، لملمة جروح البيوت التي لا تعدّ ولا تحصى، تردد: «لم يتركوا بيتاً في يحمر إلا أصابوه، أو دمّروه. مارس العدو كل حقده على بلدتنا، حتى كروم الزيتون ومواسم التبغ والخضر لم تنجُ من عدوانه. شقيقي عريس جديد، لم يبق من أثاث بيته شيء؛ وكذلك شقيقي الآخر، سقط صاروخ قرب بيته، والعديد من القذائف دمرت الجدران والأثاث، وأتت على كل ما كنّا نعلقه من موسم التبغ».
لا تنتهي الحكايا المرتبطة بالعدوان والدمار في يحمر، كما لا تنتهي التساؤلات والمخاوف من القادم المجهول، وخصوصاً في مجال التعويضات على الخسائر والدمار؛ ومرد ذلك، في حسابات ألأهالي، إلى فوضى ما زالت تخيّم على ما عداها.