إبراهيم الأمين
رحم الله ريمون إده. ظل يصرخ بأن عزل لبنان القسري عن نزاعات المنطقة يتطلب نشر «البوليس الدولي من الناقورة حتى النهر الكبير». كان يصر على فكرة مركزية تحاكي الفكرة اللبنانية الاصلية التي روج لها حزب الكتائب في حينها. من فكرة أن قوة لبنان في ضعفه، إلى فكرة أن لبنان غير معني بالقضايا العربية، لأن هناك التباساً في هوية البلد العربية. يومها جاء اقتراح «عميد الياقات المرتبة» ليصوغ موقفاً وسطاً يبعد لبنان عن الصراع من دون أن يضعه في خانة فريق. لكن نقطة الضعف هي نفسها، في أن تحقيق هذه العزلة يتطلب حماية دولية، وهذا يعني بالحسابات السياسية الحالية أن المجتمع الدولي الذي سيتولى هذه المهمة هو ذاته المجتمع الدولي الذي يضع في رأس أولوياته حماية إسرائيل. وهو ذاته المجتمع الدولي الذي ينتج ما ينتج في العراق، وهو الذي يتولى إبادة شعوب في المنطقة والعالم، وهو الذي شاهدناه يوفر كل حاجات إسرائيل في حربها الأخيرة على لبنان.
اليوم، اكتشف المجتمع الدولي أن القرار 1701 غير كاف لتحقيق ما هو مطلوب يوم جرى التصديق على قرار الحرب. لم يعد الامر مرتبطاً فقط بنتائج المواجهات الميدانية، ولا بقدرة إسرائيل على فرض وقائع في الأيام الأخيرة، أو حتى في الوقت الضائع. ولم يكن أحد يتصور أن ما واجهته إسرائيل في الجنوب كان سيحصل.
وفي الأيام الأخيرة بدا أن هناك مشكلة فرنسية ــ أميركية ــ إسرائيلية تتعلق بواقع القوة الدولية. توهم كثيرون أن فرنسا عدلت في موقفها وأنها تحتاج إلى ضمانات خاصة للمجيء إلى لبنان. ثم ظهر من المناقشات كأن باريس تُخلُّ بوعد قطعته لواشنطن وتل أبيب حيال طريقة التصرف. لكن بعض التدقيق يظهر ما هو مخالف:
1 ــ لم تفكر باريس مثل واشنطن وتل أبيب وبعض القوى اللبنانية والعربية في أن إسرائيل لن تحقق نصراً عسكرياً سريعاً، وبالتالي فإن الاستعداد الفرنسي سابقاً كان جزءاً من الخطة المرسومة للحرب ونتائجها. كان المخطط يقضي بأن تتولى إسرائيل عملية “سحق” المقاومة في الجنوب، وتحميل سائر اللبنانين مسؤولية توفير الدعم والملاذ لها، وبعدها يتقدم “المجتمع الدولي” وكأنه في طريق إنقاذ لبنان من الوحش الإسرائيلي، وساعتها يصدر قرار شامل عن مجلس الأمن يقضي بوضع لبنان تحت الوصاية، بناء على طلب حكومته ( في المناسبة ثمة معلومات فائقة الخطورة عن تورط شخصيات لبنانية بارزة في هذا السنياريو، وهي نفسها الشخصيات التي تضغط الآن في اتجاه تحرك أقوى للمجتمع الدولي من أجل فرض خطوات جديدة على لبنان عبر تفسير خاص لبنود القرار الدولي). وإن هذه الوصاية تتم على شكل انتشار كثيف لقوة متعددة الجنسيات تقودها فرنسا.
2 ــ لم تكن باريس ولا الولايات المتحدة تفكران بعناء الانتشار الأمني والسياسي، وبذلك ربطاً، يكون النافذون في فريق الأكثرية قد كرروا مراراً أن هناك مناخات لبنانية كبيرة مستعدة لملاقاة الجهات الدولية، وأن ذلك سوف يتم من خلال معركة موحدة عنوانها “استعادة الدولة”، وهو أمر تبين لاحقاً أنه منسق في بعض تفاصيله مع جهات لبنانية لما يقع هو أيضا تحت عنوان “إدخال الشيعة في الدولة”. وبالتالي فإن فرنسا لم تفكر في الانتشار كأداة محض عسكرية، بل كأداة عسكرية تخدم مشروعاً سياسياً حتى مع متطلباته الإنمائية.
3 ــ افترضت فرنسا أن بوسعها فرض آليات من العمل التي تخص انتشار قواتها في لبنان، وهو ما حمله السفير في بيروت برنار ايمييه إلى قيادة الجيش اللبناني وإلى رئاسة الحكومة في شأن طبيعة الانتشار العسكري في الجنوب. واتضح لاحقاً أن فرنسا هي التي شجعت فريق الأكثرية، ولا سيما الوزير مروان حمادة، على خوض معركة “المنطقة العسكرية” التي فهمها هؤلاء على أساس أنها البديل من “الفصل السابع”، نظراً لاعتقاد هذا الفريق أن في إمكان الجيش والقوات الدولية إنهاء كل أشكال السلاح والمسلحين جنوبيّ نهر الليطاني وشماليّه من خلال إعلان المنطقة العسكرية التي تجعل قائد القوة العسكرية هناك بمثابة حاكم عسكري، له الحق بأي تدبير من دون العودة إلى أي سلطة أخرى سياسية أو قضائية، وخصوصاً أعمال الدهم والتفتيش والاعتقال، فضلاً عن المواجهات الوقائية. وقد جرت مناقشة مسبقة لكيفية التعامل مع المخيمات الفلسطينية الواقعة جنوبيّ الليطاني. وتم التنسيق بين رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي طلب من فريقه في لبنان مساعدة السلطة اللبنانية على المضي بالأمر، ولو تطلب ذلك نزعاً سريعاً وعنيفاً لأي سلاح في المخيمات، وهو الأمر الذي أثار الذعر لدى كثير من الدوائر الفلسطينية، بما في ذلك ممثل عباس في بيروت عباس زكي.
4 ــ فوجئت فرنسا بأن نتائج المعركة أظهرت “قوة غير متوقعة” للمقاومة تسليحاً وتنظيماً وتكتيكاً. كما أظهرت التفافاً شعبياً غير مسبوق، وهو ما يمنع الشروع في عملية سياسية ــ إنمائية تحت عنوان عزل حزب الله عن الجمهور الشيعي، فضلاً عن أن فرنسا فتشت عن ضمانات كاملة بعدم تعرض قواتها لأعمال عدائية، وتبين أنه رغم حسم حزب الله الأمر على قاعدة أنه غير معني بمواجهة أحد في لبنان غير القوات الإسرائيلية، فإن الفرنسيين يتحدثون عن رسائل وصلتهم تقول إنه ليس في لبنان من يوفر هذه الضمانات، وهو أمر يلفت أحد المراجع المعنية إلى أهميته في معرض تأكيده أن أي “اجتهاد من جانب أي قوة أجنبية في التعامل مع الواقع جنوباً سوف يؤدي إلى كارثة تصيب هذه القوة، من دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، وهو أمر يعرفه الفرنسيون أكثر من غيرهم نتيجة خبرتهم في لبنان.
وعليه، فإن الفرنسيين لم يتراجعوا عما تعهدوه سابقاً، أي في فترة التحضير لهذه الحرب وما أُعلن عنه خلال الحرب نفسها.
لكن باريس أعادت النظر في دورها المفترض ربطاً بنتائج المعركة، وقد باتت مضطرة أكثر من السابق إلى مقاربة مختلفة، آخذة في الاعتبار أن المرحلة المقبلة لا تقف عند تمنيات النافذين في فريق الأكثرية، وهو الأمر الذي سوف تظهره نتائج المحادثات الجارية الآن في فرنسا التي تنطلق من فرضية أنه قد يمكن الحصول على نتائج أفضل إن جرى العمل على قرار جديد من مجلس الأمن أكثر “تشدداً” من القرار 1701، ويكون بمثابة دليل على تنفيذه. ويبدو أن في لبنان من يستخدم الحــــــصار الجوي والبحري الإسرائيلي لأجل الضغط، وربما هناك محاولة لاستخدام ما هو أخطر، أي منع إطلاق عملية إعمار سريعــــة وواســـعة للمناطق المنكـــــوبة.