كامل جابر
لم يكن أبناء صيدا في حاجة إلى عدوان إسرائيلي آخر لإثبات قدرتهم على العطاء والوقوف وقفة وطنية صلبة، حيال مواجهة العدوان من جهة، واستقطاب حركة النازحين بكل تداعياتها من جهة ثانية، إذ تحولت المدينة وكل فاعلياتها ورشة لا تقل قدرة عن حركة المواجهة العسكرية التي حققت النصر، على رغم ما تعرضت له ومحيطها من اعتداءات.
منذ اللحظة الأولى للعدوان، ألقى أبناء صيدا كل الكلام «الليلي» وإشاعات «الهمس»، وما كان يدور، قبل العدوان، من إثارة لبعض «القلاقل» الشعبية التي كادت تفتعل بعض «الاصطفافات» التي لا عهد لصيدا بها. وانصرف الجميع من دون مواربة، نحو «المعالجات» الوطنية الكبرى، التي تبدّت في تشريع أبواب البيوت والمدارس والمؤسسات في حملة إغاثة ومساعدة واستقطاب وترويح، ربما، لم تشهدها مدينة لبنانية أخرى، على هذا النحو، جعلت النازحين والقادمين إلى عاصمة الجنوب، يشعرون بمعنى أن تكون صيدا عاصمة جنوبهم.
يعود النازحون من عاصمتهم إلى ملاذات الروح والبيوت، وتظل صيدا على أهبة الاستعداد لأي طارئ وطني أو قومي. بيد أن ثمة فراغاً، متعمّداً أو غير متعمّد، ألبس بعض المدينة شللاً في الحركة الاقتصادية التي تُعدّ بمثابة الروح لأبنائها وأبناء المنطقة، وخللاً شرّع بعض النوافذ، من جديد، على إشاعات من هنا أو من هناك، وكلام قد يصيب الانتصار الذي حققه أبناء الجنوب ومقاومتهم على عدو لم يفرّق بين مقاومة وشعب، كلام، في جزء منه مشكِّك، وفي آخر يحمل صنوفاً من العتب و«اللون» المذهبي، المبني على كلام «همس» آخر نسيه أبناء المدينة أيام العدوان، فيما تجهد كل مرجعيات عاصمة الجنوب، من دون استثناء، لتدارك اتساعه، كيلا يُدخل المدينة في أتون غريب عن أصالتها وتاريخها الوطني.
صيدا التي ظلمها العدوان، اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً، وقدّمت عطاءات متقدمة على رغم هذا الظلم، لم تجد من الجهات الرسمية المسؤولة صوتاً يحكي عن حصار الصيادين وسائقي المراكب، أبناء الطبقات الشعبية، الذين باتوا على أعتاب الشهرين من دون لقمة تسدّ جوع العائلات وتعوّض ما حلّ بهم من خسارة، ولو تركوا لتبعاتها وديونها لأصبحوا في حاجة إلى أضعاف مضاعفة من شهور عمل غير منقطعة. وتحتاج الى من يحكي عن كساد مواسم أصحاب البساتين، التي تحوّلت ثمارها أسمدةً للتراب وطعماً للعفن، أو بائعي الحلويات والسكاكر والحرفيين وأبناء الحي الشعبي والعمال المياومين، وتجار صيدا وجوارها. لم يجد كل هؤلاء صوتاً ينطق بعبارة «التعويض» عما لحق بالمدينة من خسائر فادحة، لا تُعوّض بوجيز من الأشهر، كأن مَنْ يريد من صيدا التلهّي بهموم العيش ومصاعب الرزق ومخاوف الشلل، يسعى، عن قصد أو غير قصد، لتبديد لفظها لأي كلام غريب عن طعم ملح بحرها، وسمعة سعة صدرها، ورفعة شأنها!
لا خوف على صيدا من معالجة «الجراحات» وبعض «الإساءات»، أو لملمة ما يسقط من هنا أو هناك، من «تفوّه» في غير محله، لكن الخوف على «الدولة» التي قد تتناسى أن صيدا، هي صوت ضمير الجنوب، الذي طالما انتفض من أجل لقمة الجائعين وكرامة المقاومين.