النميريّة ــ عبير حمزة
كان يوماً جديداً من العدوان، كفيلاً بأن تتشح بلدة النميرية (النبطية) بدماء أطفالها لتلتحق بركب قانا وأخواتها.
أربعة أبناء ووالدتهم كانوا ينتظرون رب العائلة ليعود لهم بما يجعلهم قادرين على مجابهة العدوان بالصمود.
نصف ساعة هي المسافة بين آخر ابتسامة قرأها عدنان الحركى على شفاه أبنائه، وبين سطور الدمع المتدفق على وجنتيه. نصف ساعة بين اخر نظره في عيون اطفاله, المتلهفين لبقائه معهم, وبين مشهد تتسمر أمامه العيون لمنزل كان عامرًا منذ برهة بالحياة, وإذ لا شيء في المشهد يشبه ما كان قبله؛ الا ما تبقى من صورة لعائلة كانت تخطط للغد الآتي بكثير من الأمل في الحياة.
عدنان الذي يفتقد عائلته ويعيش فراغاً كبيراً بعد رحيلها، يحاول أن يملأ زاوية من خاطره بصورة للعائلة، هي ما تمكّن من إنقاذها من تحت الركام، مع «مقلمة» صمدت لتخُطّ آلام أطفاله. هو يعلم أن إسرائيل استهدفت عائلته «لأنها تريد القضاء على كل ما يمتّ إلى الحياة بصلة، أطفالي لم يكونوا حملة سلاح ولا حتى أنا. كل ما في الأمر أننا آمنّا بأرضنا وآثرنا الصمود، أو لأن إسرائيل قرأت في وجوه أطفالي صورة شباب سيرفضون المساومة على الأرض والقضية».
في ذاك اليوم، كان عدنان يحاول البحث عمّا يسدّ جوع أطفاله. عاد إلى المنزل ليرى منزله وقد حوّلته حمم الطائرات الإسرائيلية إلى ركام، والذين كانوا ينتظرون بداخله (الزوجة وأبناؤه الأربعة) أشلاء متناثرة تحت الأنقاض. في منزل شقيقه حسن، يتذكر عدنان تلك اللحظات، ويعيش على بعض ذكريات انتزعها من حطام المنزل، هي عبارة عن ميدالية نالتها ابنته الصبية رنيم (16 عاماً) التي كانت تحلم بأن تصبح بطلة رياضية. وكذلك محفظة مدرسية عائدة لهادي (10 أعوام)، وبقايا صور تشكّل جميعها بالنسبة له معيناً على البقاء وأثراً يذكّره بأنه كانت له أسرة ذات يوم.
يقول عدنان، بعدما امتلأت عيناه بالدموع: «أعيش فراغاً كبيراً وأفتقد عائلتي، أستفيق في كل صباح وأعتقد أنهم ما زالوا أحياء. أحاول ملء زوايا خاطري بصورهم». ويضيف أنّه غادر منزله قبل نصف ساعة من المجزرة متّجهاً إلى أحد الأفران للحصول على الخبز وبعض المواد الغذائية. «سمعت دويّ انفجارات الصواريخ من الطائرات المغيرة، لكنّني لم أكن أعرف أن المستهدف هو منزلي، لأن أطفالي ليسوا من حملة السلاح، ومنزلي ليس منصة لإطلاق الصواريخ، بيد أنّ صديقاً رآني وأخبرني بأن عليّ التوجه فوراً الى المنزل، محاولاً التخفيف من هول الخبر بالقول: إن القصف قريب من منزلك. وما إن وصلت إلى هناك، حتّى شاهدت تلك المصيبة الكبرى. حطام وركام ودخان وفرق إنقاذ. فأدركت أنّ كلّ شيء انتهى بالنسبة لي، وأنّ عائلتي ذهبت ولن أراها ثانية».
عدنان الحركة الذي يرشَح صبراً على آلام الفراق الصعب، يرفض أن تمرّ بذهنه، ولو للحظة، فكرة تحميل المقاومين ذنباً لما حلّ بعائلته. فـ«إسرائيل ارتكبت المجازر قبل وجود المقاومة، من دير ياسين، وصولاً الى قانا. على العكس، إن المقاومين يأخذون بثأري في كل مرة يوقعون الهزيمة بالعدو الإسرائيلي».