كامل جابر
تجتمع قلّة في نهاية كل أسبوع على ذاك التل المتواضع في الجرمق (جزين). تسرح في مداها المدمر، أو نحو أطلال من بيوت قديمة، كانت ترسم معالم الضيعة الزراعية، التي قيّض لها التهجير منذ عام 1976، بفعل العدوان الإسرائيلي، ثم التدمير المباشر عام 1978، ليعودوا بعد التحرير في أيار عام 2000. يدخلون في نفق الانتظار لعل الدولة تأتي إليهم، وتعيد بناء ما تهدم، وبالتالي بناء القرية التي تعدّ أكثر من 2500 نسمة، لا يقطن منهم في غير الصيف، أو العطل الأسبوعية، أكثر من اثنين أو ثلاثة.
مرّت ستّ سنوات بعد التحرير، وها هو العدوّ يضرب من جديد جسر الجرمق، وتقصف الطائرات أراضيها الحرجية المهجورة، وسهلها. ومن يمكث في الجرمق، لا يساوره شك في أن أحداً لن يأتي إلى القرية، ويسأل أهلها: «هل تريدون عودة قريتكمهي الحسرة بكل تبعاتها التي تنغّص حلم أبناء الجرمق بعودتها إلى خريطة القرى الجنوبية، على الرغم من محاولاتهم اليائسة، منذ ما بعد التحرير لتكوين بنية اجتماعية وعمرانية، تكون مدماكاً أول للعودة، على قاعدة بعض البيوت الحديثة التي أنشأوها، قبل التهجير، على ضفتها الشمالية في تل العرقوب، بموازاة محاولات جرت سابقاً لشراء بعض البيوت القديمة من أصحابها. بيد أنّ الاحتلال فعل فعلته في التهجير، بعدما دمّر القديم والجديد. ولمّا عادوا بعد التحرير، وجدوا قريتهم القديمة وحقولها الزراعية قد بيعت لمستثمرين من خارج المنطقة، لا يزيد عددهم على أصابع اليد، بما في ذلك البيوت العتيقة التي لهم الحق فيها أكثر من غيرهم. وباتوا من دونها، ومن دون أي تعويض أو شفعة سكن أو استئجار، أو حتى استثمار! يبحث أبناء بلدة الجرمق اليوم مجدداً، أكثر من أي وقت مضى، عن هوية قريتهم ووجودها، فيما تفتقد البلدة المتواضعة كنيستها التي هدمها الاحتلال عام 1978، ومدرسة قد تشجع النازحين عنها، منذ ذلك الحين، على العودة.
يقول مختار البلدة نبيل شديد: «انتظرنا ست سنوات بعد التحرير، ورأينا كيف تبنى القرى البعيدة والمجاورة. لم نلمس حمية أحد، من الدولة وغير الدولة، ليلقي علينا وعداً فقط، بإعادة بناء قريتنا المتواضعة على نحو ما جرى في سجد وعين عرب ومرجعيون وقرى في قضاء بنت جبيل. في العدوان الأخير، نالت بلدتنا حصتها من العدو الذي كان السبب الأول والأخير في تدمير البلدة وتهجير أهلها. دمرت الطائرات الجسر الذي يربطنا بالنبطية ومنطقتها، وأغارت على الحقول والتلال. وبعد أسبوعين من وقف النار، لم نر وجهاً يسأل أبناء الجرمق: ماذا حلّ بكم؟ هل نحن من هذا البلد أم لا؟ ولماذا نعامل على هذا النحو من اللامبالاة وعدم المسؤولية تجاهنا؟».
كان مزارعو الجرمق يعملون بـ«الشراكة» مع آل الخوري وعفيف، ولا يملكون من الحقول شبراً واحداً. نزحوا إلى العاصمة وعملوا في وظائف مختلفة (أكثرهم في الجيش اللبناني) وكذلك في الأعمال الحرة. وناضلت بعض العائلات واشترت لاحقاً بعض العقارات من الورثة، بغية إنشاء «تعاونية سكنية» على مساحة 396120 متراً مربعاً لتكون قرية نموذجية على أنقاض قريتهم، بانتظار حصولهم على بعض التعويضات عن المنازل المدمرة.
لكن، هل يظل شعار «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة...» ينطبق على أبناء الجرمق؟ هو الانتظار من جديد يلقي بثقله على المتسمّرين انتظاراً فوق التل، ببيوت متواضعة غير مكتملة، لعل الدولة تتذكّر بعد العدوان الأخير بلدة الجرمق، وتأتي وتسأل.