كارل كوسا
قد لا يصدّق أحد من خارج الضاحية أنّ ثمّة من يرفض الحصول على تعويضات الحزب عمّا تهدّم أو تضرّر من عقاراته. قد يبدو المشهد خياليّاً ومركّباً لمن لا يعرف «نفسيّات أهل الضاحية»، كما يؤكّد لنا أحد أبنائها. المسألة، بكلّ بساطة، هي أنّهم أرادوا المساهمة مع الحزب في إعادة التأهيل والإعمار، قدر إمكاناتهم. فابتعادهم عن صفوف المقاومة العسكريّة لا يعني فقدانهم حس المقاومة والرغبة في التعاضد معها، بشكل أو بآخر.
تشير الحاجة فاتن التي فقدت منزلها في الرويس بالقرب من مجمّع سيّد الشهداء إلى «أنّ مبناهم المدمّر بات أشهر من نار على علم، كونه انغرس داخل الأرض ولم يبقَ ظاهراً منه للعيان سوى طبقتين». فقرّرت وعائلتها تحمّل نفقات إيجار بيت موقّت لهم وفرشه على حسابهم الخاصّ. لن تقبض الـ12 ألف دولار التي كان الحزب قد خصّصها لكلّ من لم يعد منزله صالحاً للسكن أو لمن فقده كلّياً. فهي تقول «الحمد لله نحن قادرون على ذلك»، وعندما أعلن السيّد قرار صرف التعويضات «صرت إبكي». أمّا السبب فهو «بعد كل هالتضحيات التي قدّمها ونأخذ منه مصاري!». هم أساساً، كانوا ينوون التبرّع لهيئة الدعم، فجاءت تلك المبادرة كخطوة بديلة.
لإبراهيم حكاية أخرى، فهو كان مقتنعاً تماماً، عكس والده، بعدم قبول تعويضات الحزب وليس «رفضها». وكانت حجّته في ذلك أنّ الأضرار «مش محرزة »، مفضّلاً ترك المجال لغيره من المتضرّرين. «من واجبنا التضامن مع المقاومة في هكذا حصار يُفرَض عليها دوليّاً وعربيّاً، وخصوصاً أن شبابها كانوا العين الساهرة على بيوتنا، منعاً لأي حوادث سرقةإبراهيم ابن صيدا، تربّى في الضاحية، ولا يستغرب أن تأتي هكذا مساهمات تعاضديّة من أبناء الضاحية أيّاً كانت طوائفهم، شيعة أم سنّة أم مسيحيّون. يجب التفريق بين المقاومة والحزب، ينصح إبراهيم، «فالمقاومة صراط الوطنيّين كافّة، في حين يبقى الحزب عقيـــــدة إيديولوجيّة لا يشـــــترط أن نؤمن بمبــــادئه كلّها لنكون داعمين للمقاومة». اقتـــــنع أبوه، أخــــراً، برأيــــه وبـــــاشروا بالإصــــــلاحــات.
ولكنهم لن يسكنوا فيه قبل عام، لتفادي أمراض قد تنجم عن الروائح السامّة، وخصوصاً أن «الوالدة مريضة».
عائلة منى اتّخذت أيضاً قراراً إجماعيّاً بعدم تكبيد الحزب أعباء إضافيّة. أضرارهم اقتصرت على كسر الزجاج وخلع الأبواب. لم ولن يخمّنوا كلفة الإصلاحات، بل باشروا بترميمها فوراً «ما بدنا نخسّرهن». حتّى أخ منى المقيم في أميركا رحبّ بهذا القرار الصائب. وتؤكّد منى، ممّا سمعته في محيطها (الحارة ـــ الرويس)، أنّ الذين لم يخسروا شيئاً رأوا أنفسهم مقصّرين في حقّ المقاومة وردّ جزء من جميلها. في الوقت عينه، لا يجوز اعتبار من قبض الـ12 ألف دولار ـــ حسبما تعتقد منى ـــ ضدّ الحزب ولا يودّ دعمه، لأنّ إمكانات السكّان المادّية تتفاوت بين المعدومة والمتوسّطة والميسورة.
رغم فقدان أبي حسين لمنزله، إلاّ أنه لا يريد من المقاومة أكثر من الذي بذلته في سبيل تحرير الوطن وحفظ كرامة أبنائه. ويتساءل: إذا «طار البيت»، تُعيد المقاومة بناءه. أمّا إذا «راحت المقاومة»، فمن أين سنأتي بوطن آخر؟ «مستورة كتّر خير الله»، لذا فضّل التبرّع بتعويضاته المستحقّة، واستأجر بيــتاً لأسرته في حـــــيّ السلّم.
بالنسبة إلى إعادة إعمار منزله يقول «بكّير بعد». يفكّر لبرهة ومن ثمّ يصرّح: «لو قدرنا نعمّر ما حنقصّر..ولو ما كفّتنا أموالنا فالشباب (ويعني شباب حزب الله) ما حيقصّروا بالباقي. لسنا أوائل ولا أواخر من بادر بهذا الفعل. التضامن خيرالله هون. وإذا أهل الضاحية ما دعموا المقاومة ووقفوا حدها على طول الخط والمسيرة فمن سيقف إلى جانبها؟!»