نقولا ناصيف
كان الرئيس رفيق الحريري يرى في القرار 1559 أمثولة فشل الديبلوماسية السورية آنذاك في مراقبة الأحداث وتوقّع نتائجها، وغالباً ما قال إن مسؤولين سوريين، وخصوصاً وزير الخارجية حينذاك فاروق الشرع، لم يصدّقوا جدية الجهود الفرنسية ــ الأميركية الساعية الى ترتيب إخراج الجيش السوري من لبنان. عندما اجتمع في 5 حزيران 2004 في قصر الإليزية الرئيسان جاك شيراك وجورج بوش وأطلقا العبارة التي أصبحت مفتاح القرار 1559، وهي دعوتهما الى لبنان مستقلّ وسيّد، لم تكن العلاقات الفرنسية ــ السورية قد بلغت ذروة تردّيها، فكان أن مرّر الفرنسيون الى السوريين معلومات تنبئهم بضرورة التنبّه الى جدية الجهود الفرنسية والأميركية لإنهاء سيطرتهم العسكرية والسياسية على لبنان. لم تصدّق دمشق فوقعت في فخّ القرار 1559.
خلع هذا القرار المسمار الأول في علاقات غير متكافئة لبنانية ــ سورية، وهو انسحاب الجيش السوري واستخباراته العسكرية من كل الأراضي اللبنانية في 26 نيسان 2005.
ثم أتى قبل أسبوعين القرار 1701 كي يخلع المسمار الثاني، وهو التأثير السوري المباشر على الديبلوماسية اللبنانية، في انتظار المسمار الثالث الملقى على عاتق السلطة اللبنانية، وفريق الغالبية خصوصاً، وهو المعاهدة اللبنانية ــ السورية والاتفاق الأمني وسائر الاتفاقات النافذة. وكانت دمشق قد مهّدت من طرف واحد لخلخلة المسمار الثالث بإجراءات تضييق عند الحدود ووقف مدّ مناطق لبنانية بالكهرباء.
لكن المسمار الثاني لا يقل أهمية عن مسمار الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان. فمنذ أن شدّدت دمشق قبضتها على السلطات الدستورية اللبنانية تباعاً منذ عام 1989 وصولاً الى الجيش اللبناني وأجهزته الأمنية، وضعت يدها على الديبلوماسية اللبنانية من خلال بعدين متلازمين: أولهما جعل القرار الديبلوماسي اللبناني أسير القرار السوري في كل ما يتصل بالسياسة الخارجية، وثانيهما إبقاء الجنوب اللبناني أداة ربط نزاع مع إسرائيل باسم تلازم مساريهما. وبعد تحرير الجنوب عام 2000، أضحت مزارع شبعا نافذة سورية على الجولان المحتل سعياً الى ربط تحرير هذه بتحرير ذاك.
في الحصيلة يأتي تنفيذ القرار 1701 لينهي، أو يكاد، أحد آخر أبرز مكامن النفوذ السوري في لبنان، وهو إغلاق مصادر الصدام العسكري مع إسرائيل عبر «الخط الأزرق» ومزارع شبعا. واستناداً الى ما أبلغته القيادة العسكرية الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، فإن الجيش نشر 15000 عسكري في الجنوب و8000 عسكري على طول الحدود اللبنانية ـ السورية من راشيا حتى مصب النهر الكبير الجنوبي، وخصوصاً معابرها غير الشرعية، و1000 عسكري على المخافر البحرية. أضف أن القوة الدولية ستنتشر في منطقة عازلة بين الجيشين الإسرائيلي واللبناني عند «الخط الأزرق» وعلى حدود القسم اللبناني من الحدود اللبنانية ـ السورية في مزارع شبعا (غير المختلف عليها). والانتشار في هذه المنطقة يبدأ اليوم.
بذلك تكون خلاصة الواقع الذي يتطلبه تنفيذ القرار 1701 وضع حدّ نهائي لكل العمليات العسكرية ضدّ إسرائيل من «الخط الأزرق» كما من مزارع شبعا، بالتزامن مع انسحاب ترسانة «حزب الله» الى شمال المنطقة الخالية من سلاحه. وهو يشير الى أمرين: أحدهما تخلّيه عن مقاومته في هاتين المنطقتين حتى إشعار آخر (ما دام سيحتفظ بسلاحه وبحقه في المقاومة)، والآخر إخراج سوريا من معادلة الصراع اللبناني ـ الإسرائيلي عبر تجميد هذا الصراع مع تحوّل المزارع مشكلة سياسية قانونية في عهدة مجلس الأمن، وإن من دون حلّ.
وفي واقع الأمر فإن هذا ما تريده إسرائيل من مجلس الأمن: حماية حدودها الشمالية وتعطيل الدور السوري في لبنان بصفته صلة وصل بين «حزب الله» وإيران، ولا تتخلى في المقابل عن مزارع شبعا التي لم تعد إحدى أولويات حلّ النزاع الذي يرعاه القرار 1701.
لكن الأمر قد لا يكون كذلك بالنسبة الى دور إيران في لبنان.
بل الواضح أن الجمهورية الإسلامية قد تكون، كسوريا، فقدت موطئ قدم مباشراً ورئيسياً في جنوب لبنان مع انتشار الجيش والقوة الدولية فيه، وإن يكن ثمة مَن يرى في انكفاء «حزب الله» الى شمالي نهر الليطاني أنه جعل لإيران، عبر ترسانة صواريخه، حدوداً مع إسرائيل.
وبمقدار ما يبدو فريق الغالبية أكثر اطمئناناً اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الى تقليص فاعلية النفوذين السوري والإيراني في لبنان من خلال سلسلة الإجراءات التي نصّ عليها القرار 1701 وانتقال السيادة على الجنوب من كفة تجاذب سوري ــــــــ إيراني الى السلطة اللبنانية، فإن تقارير، بعضها سياسي والبعض الآخر ديبلوماسي، وصلت الى جهات لبنانية نافذة، أبرزت جانباً من المقاربة الأميركية للمواجهة مع إيران، وقد عكست أحداث 12 تموز في لبنان أحد وجوهها. وتضمّن بعض هذه التقارير معلومات استقاها مسؤول مخضرم سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بتحدّثه عن خطة عسكرية اطلع عليها الرئيس الأميركي من مستشارين عسكريين عُرفت بمخطط «STRATCOM» (القيادة الاستراتيجية الجوية)، وقد لحظت هجوماً عسكرياً أميركياً يستهدف في وقت واحد 1500 موقع داخل الأراضي الإيرانية بطريقة فاعلة لتدمير كل القدرات العسكرية والنووية الإيرانية، بحيث يحول دون أي ردّ فعل إيراني. ويُغني الهجوم الجوي عن أي تدخّل بري.
ويعتقد واضعو هذا المخطط بأنه يرمي الى تقديم عرض قوة واحد وخاطف ومذهل، يُفضي الى صدمة داخل إيران ومن ثم انتفاضة يقوم بها إيرانيون معارضون للنظام وموالون للغرب، ويستولون على السلطة باسم الحرية والديموقراطية.
وتشير هذه التقارير الى معطيات، منها ما يجعل فريقاً في الغالبية يعوّل، ربما، على تحوّلات يتأثر بها لبنان إيجاباً بإخراجه من دائرة الصراع الأميركي ـ السوري والأميركي ـ الإيراني:
ـ أن بوش لن يغادر مكتبه في كانون الثاني 2009 قبل أن يحقق تعهّده بمنع تحوّل إيران دولة نووية، مع أن من المرجّح أن يكون قد قطع لإسرائيل وعداً سرياً بذلك.
ـ يرى في إيران خطراً كبيراً على الدولة العبرية وعلى الشعب الأميركي حتى، وأنها مصممة على تدمير الخطة الأميركية في تحقيق شرق أوسط كبير من خلال غطائها لتنظيمات تعدّها واشنطن إرهابية، ومنها «حزب الله» وحركة «حماس». وإذا دُعِمت إيران بقوة نووية، فإنها ستعزّز من تأييدها لهذه التنظيمات ومساندتها عسكرياً وسياسياً.
ـ إن تجريد إيران من سلاحها النووي يوازي في أهميته ما يراه الرئيس الأميركي انتصاره في العراق.
ـ ستحاول واشنطن مواجهة الضغوط الدولية، ولا سيما من روسيا والصين، لفرض عقوبات على إيران من طريق مجلس الأمن.