تمام مروّة
لم يكن الفلسطينيون محايدين أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، بل أدّوا أدواراً مختلفة في الإغاثة ومساعدة النازحين، وفتحوا منازلهم ومدارسهم في المخيمات المكتظة أصلاً بالسكان. مخيّم البص مثلاً تحوّل إلى ورشة عمل لصنع التوابيت عندما ندرت وتعذّر على الهيئة العليا للإغاثة توفيرها للمستشفى الحكومي في صور. وتطوّع الفلسطينيون بالمئات في مدارس صيدا وبيروت وطرابلس وحديقة الصنايع، وشكلوا ظاهرة لافتة ضمن الوفود المدنية التي توجهت الى الجنوب أثناء الحصار.
ربيع، من قرية “الغوير أبو شوشة” في شمال فلسطين، أعادته مشاهد النزوح الى طفولته، الى اجتياح 1982. وأعادت وجدانه إلى رحلات أجداده من فلسطين إلى شتات لم ينتهِ حتّى اليوم. تطوّع في حديقة الصنايع، وكان أحد المقاومين المدنيّين ضمن القوافل المدنية التي حاولت التوجه نحو جنوب لبنان للتضامن مع أهله ولدعم حقهم في البقاء على أرضهمقبل 12 تموز، كان ربيع بصدد تنظيم اعتصام مع شركاء لبنانيين للتضامن مع غزة. توسّعت الاعتداءات الإسرائيلية لتربط بمجازرها بين أطفال غزة وجنوب لبنان، فوجد ربيع نفسه وسط بحر من النازحين، وقرر مع رفاقه دعم المقاومة. “اخترت دعم المقاومة من خلال الاهتمام بالنازحين، وإفساح المجال أمام مؤسسات حزب الله للتفرغ ومساندة الجبهة العسكرية”.
في حديقة الصنايع، تحمّل مسؤولية الإغاثة سبعة أشخاص من بينهم أربعة فلسطينيين. تفاعلوا مع النازحين بسهولة ومن دون عوائق، بعكس ما كان يحصل عندما كان يدخل اللبنانيون الى المخيمات الفلسطينية: “احتكاكي اليومي معهم جعلني أنتمي إليهم والى حالة المقاومة والصمود في وجه اسرائيل”.
ويقول ربيع: “كنا نسعى عبر السنوات الأخيرة إلى كسب أكبر تضامن من الشباب اللبناني تجاه الشعب الفلسطيني، وإذا بالعدوان يجمعنا ويسجل تضامناً فلسطينياً تجاه لبنان”. ويتساءل بسخرية حادة “هل كنا بحاجة لعدوان لنحقق أهدافنا في التضامن؟!». يتباهى ربيع بخبرته كلاجىء، وقد عمل مع رفاقه على الاستفادة من هذه الخبرة لتحاشي المشاكل التي كان يمكن حدوثها، كتشتّت العائلات مثلاً.
أدار وليد مركزاً للنازحين في تكميلية البنات الرسمية في صيدا، حيث تسعون في المئة من المتطوّعين فلسطينيون. التحق بالمركز بعد يومين من اندلاع الحرب، وأربعة أيام من زواجه! عمل وليد أكثر من 16 ساعة يومياً مع النازحين، في توفير الاحتياجات الأساسية، وتعزيز التواصل بين الناس.
أعادت حالة النزوح وليد إلى زمن الاجتياح الاسرائيلي. وتماهى مع الأطفال عندما كان يتذكّر مشاعر القلق والتوتر والخوف، وراودته دائماً صورة أمه وإخوته وهي «تطعمنا من اللحم المعلّب بإصبعها». فكان يسارع الى توفير الحد الأدنى من المستلزمات، وخصوصا أنّه يجد أنّ “خبرتي كلاجىء طغت على خبرتي في العمل الاجتماعي لسنوات”.
للمرّة الأولى لم يشعر وليد بأنّه لاجىء، “أشعر بأني مواطن مع حقوق كاملة، لكوني مسؤولاً عن إغاثة لبنانيين”. ويتابع “لا أملك فقط السلطة على النازحين، بل سمحت لي التجربة أيضاً أن أدخل البلدية وأجتمع مع رئيسها وأعبّر عن رأيي”. عندئذ تذكّر وليد همومه كلاجىء فلسطيني وقال: “وماذا نريد نحن الفلسطينيين أكثر من أن نشارك ونُحترَم”.
يلخّص وليد تجربته فيقول إنّه شعر بانتمائه إلى النازحين، “أنا أتعامل مع نازح من البلد نفسه، ولكن من منطقة مختلفة”.
وإذا كانت تجربة إغاثة اللبنانيين قد أشعرت وليد بالمواطنية، وربيع بالانتماء، فإنّ عماد، وهو فلسطيني يعيش في الضاحية الجنوبية وتطوّع في حديقة الصنايع، قد رأى أنّ “النازحين هم من خسروا مواطنيتهم وأصبحوا لاجئين مثلي”.
عاش هؤلاء الفلسطينيون تجارب نزوح متكرّرة داخل لبنان، وخصوصاً أثناء اجتياح 1982 وحرب المخيمات في أواسط الثمانينيات. تجارب كادت تطغى على نزوح أهلهم من فلسطين التي عادت الى ذاكرتهم مع تكرار الأسلوب الصهيوني المسار نفسه في صنع المجازر والتهجير القسري. شاهدوا ما حصل في مروحين، وقارنوه مع ما حصل عام 1948، في دير ياسين وغيرها من البلدات الفلسطينية.