اعلان النائب سعد الحريري عن ان الحكومة باقية، لا يشكل رداً على مواقف السيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون فحسب، بل يعكس توجه فريق الاكثرية نحو التمسك بهذه الحكومة رغم “كل مشاكلها” على ما يقول قطب بارز في هذا الفريق.
ويبرر الموقف بالقول: “ان الذين يريدون تغيير الحكومة الآن هم من يريد استثمار الحرب الاسرائيلية الاخيرة، وهم الذين يريدون تحقيق انقلاب سياسي من خلال الحكومة”. ويعتقد القطب نفسه “ان المفيد الآن توفير مناخات افضل للعودة الى طاولة الحوار بدل وضع شروط مسبقة، ولا بأس في ان يرتاح الجميع قليلاً وأن يراجع كل منا المرحلة الماضية قبل العودة الى البحث في الامور الاساسية”.
من هذه النقطة يبدو فريق المعارضة مستعداً لخوض معركة اسقاط الحكومة. وهذا الفريق يتوجه نحو صياغة جبهة سياسية تتجاوز الاطر المتفرقة القائمة الآن. واذا كان هناك من كان يخشى “صبغة” حلفاء سوريا فتمنّع عن التحالف مع آخرين، فإن تطورات الاسابيع الاخيرة فتحت الباب امام صياغات جديدة، وخاصة ان تفاهماً جدياً بات قائماً بين قوتي المعارضة الرئيسيتين، أي حزب الله والتيار الوطني، الحر على ضرورة إدخال تعديلات جوهرية على الوضع القائم لألف سبب وسبب.
من جانب حزب الله يبدو الامر متصلاً بالحسابات التي كانت قائمة سابقاً وجاءت بنتائج معاكسة. فهو كان يظهر رغبة في محاباة قوى الاكثرية وتجنبها خشية أن يؤدي الخلاف معها الى انعكاسات سلبية على موقع المقاومة العام. لكنه اكتشف عشية الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب، أن في بعض فريق الاكثرية من الاخطار ما يتجاوز الخطر الاسرائيلي. وأكثر من ذلك، بدا ان قدرته على تجاوز فخاخ الحرب مع اسرائيل اسهل بكثير من قدرته على تجاوز فخاخ الداخل. كما انه يعرف بالتفصيل عن مواقف كل فريق من قوى الاكثرية وماذا فعلت خلال الحرب وما هي عليه اليوم. وهو لم يعد في موقع يتحمّل “تجربة جديدة” مما يجعله أقرب الى “معركة تحسين الجبهة الداخلية”.
كذلك فإن حزب الله الذي كان يخشى حملة عليه بغية تجنيد الرأي العام بطوائفه كافة ضد المقاومة، اختبر خلال الأزمة الاخيرة مواضع لم تكن معروفة لديه. وواجه “حشداً من المفاجآت الايجابية” على صعيد الوضع الشعبي، حيث اكتشف للمرة الاولى أن هناك جمهوراً غير صغير من اللبنانيين ومن الطوائف كافة يتصرف مع المقاومة على أساس انها جزء حقيقي من لبنان. وفي ذلك ما أتاح له التخلص من “عقدة الخوف من الآخر” وسهّل عليه التواصل الاكثر عمقاً مع هذه الجهات السياسية والشعبية، مما ينأى بأي معركة داخلية عن الانقسام الطائفي الذي عرفه اللبنانيون سابقاً. كما ان حزب الله قد تأكد مرة جديدة من أنه يصعب تخويف المقاومة بجمهور إسلامي له صلته التاريخية بالقضية العربية وبالحرب مع اسرائيل. وهو كسب شعبية وتأييداً عربياً (في الطائفة السنية) لم يسبق ان حصلت عليه أي جهة لبنانية ولا حتى عربية منذ زمن طويل، وهو بذلك بات يملك رصيداً كبيراً يصعب التحريض عليه من جديد باسم الحملة المذهبية، فضلاً عن أن بين المراجع السنية اللبنانية من قاد حملة تضامن مع المقاومة تعيد الاعتبار الى ان الموقف من المقاومة ليس موقفاً طائفياً بل موقف سياسي، وهذا يسهل على الحزب الخروج من “دائرة الخوف” الثانية، وهو من ربط اي نزاع سياسي بنزاع مذهبي يهدد وحدة لبنان.
الامر الثالث المتعلق بحزب الله هو المتصل بالربط المنطقي بين معركتي التحرير والتغيير الداخلي. وإذا كان الحزب لم ينجح في استثمار الأمر عام 2000، او لم ينجح في تطوير البنية الداخلية خلال سنوات الوجود السوري، فهو الآن امام مسؤولية خاصة، وهو ما يطالبه به الآخرون من حلفائه الذين يعتقدون ان مستقبل المقاومة في القيام بدور دفاعي عن لبنان يحتاج الى صياغة لموقف سياسي داخلي مختلف عما هو قائم الآن.
لكن السؤال هو: هل في إمكان حزب الله الاستدارة سريعاً نحو الوضع الداخلي أم يحتاج الامر إلى وقت؟
بالنسبة إلى العماد عون، فهو كان قد تحمّل التحالفات السياسية التي رافقت الانتخابات النيابية ورافقت تأليف الحكومة، وتفهم مع الوقت ظروف كل فريق، ولكنه لم يعد في الموقع الذي يحتمل مهادنة حكم بات يهدد وحدة البلاد كما يعتقد عون ويقول. وهو في هذه الحالة يدرك الحاجة الى تغييرات تهدف الى جملة امور من بينها:
ــ إعادة صياغة التحالفات السياسية الداخلية، مما يعني رفع مستوى تفاهمه مع حزب الله الى تحالف يدير معركة داخلية تهدف الى إعادة بناء الدولة بعيداً عن المرجيعات الطائفية والزعامات التقليدية التي تريد إبقاء البلاد رهينة آليات متوارثة من زمن بعيد.
ــ استعداد عون لتوسيع الجبهة السياسية الداخلية عبر بدء البحث في اطار واسع يجمعه وحزب الله والقوى المشكلة للقاء الوطني وقوى حزبية اخرى مثل الحزب الشيوعي والحزب القومي وهيئات مدنية معارضة.
ــ السعي الى تفعيل النشاط السياسي وغير السياسي الذي يفتح معركة إعادة الاعتبار الفعلي الى الدور المسيحي في الحكم برفض حاسم لتجربة الحكم خلال الوجود السوري وما بعده. وهو في هذه الحالة قرر التخلي عن ربط أي خطوة له بمعركة رئاسة الجمهورية باعتبار ان هدفه الابرز هو إعادة التوازن الى الحكم ورفضه أي تعديل حكومي من النوع الذي يفتح باب المقايضة التي جرت معه قبل تأليف الحكومة الحالية.
ويبدو أن عون، الذي خاض اختباراً قوياً وصعباً بمواقفه الاخيرة، يدرك ان الحملة عليه التي يقودها فريق الاكثرية والتي كلف الرئيس امين الجميل والدكتور سمير جعجع تحديداً الاضطلاع بها ضده، تستهدف إلجاءه إلى الوقوف في موقع دفاعي. وهو يعتقد ان تجاوب الشارع معه دليل على قدرته على التأثير اكثر إذا ما لاقاه الحلفاء الآخرون في منتصف الطريق. ويبدي عون استعداداً للذهاب الى ابعد الحدود في معركة إعادة التوازن الداخلي، وهو جاهز ايضاً لخيار الاستقالة الجماعية من المجلس النيابي وخوض معركة تأليف حكومة إنقاذ تضع قانوناً جديداً للانتخابات النيابية وعلى اثرها يمكن حسم مشكلة رئاسة الجمهورية. وهو في هذه الحالة ينتظر موقف حزب الله من الامر.
وبين موقفي حزب الله وعون تبدو القوى الاخرى الحليفة لهما والموجودة خارج الندوة البرلمانية معنية اكثر من غيرها بقيام هذه الجبهة وهذا الاطار بما يفتح الباب باكراً امام معركة يُعتقد ان فريق الاكثرية سوف يقاومها بما امكنه من قوة، من دون ان يغفل عن بال احد ان في لبنان قوى مستعدة للتفريط بلبنان كله للمحافظة على مواقعها الصغيرة.