strong>ليس في صريفا بيوت إضافية يمكن أن تؤوي من صاروا بلا بيوت. وأبناء البلدة لم يعتادوا بعد أن يكونوا خارج بحرهم، خارج حدود بلدتهم. فقد اهتدوا منذ عقود إلى نمط حياة يقوم على الاكتفاء والتكامل، من حيث السكن والمحال والمؤسسات والزراعة والدراسة وغيرها، صيفاً وشتاءً. وها هم اليوم، كأن الحياة انقلبت رأساً على عقب. كامل جابر

البيوت لم تعد بيوتاً والركام لم يزل ركاماً، وهو يحتاج إلى أيام لإزالته، نظراً لكثافته. لا دكاكين أو مؤسسات أو بقايا رزق تسند همة العيش، إلى المستقبل القريب. أمّا الموسم الأساسي الذي تعتمد كثرة منهم عليه، أي التبغ، فضربه العدوان في الحقول وعلى «السقالات» وفي داخل غرف البيوت. فمن أين يبدأون؟
جرافات وحفارات متواضعة العدد هي التي تنتزع ما تبقى من أبنية. وحجم الدمار يحتاج إلى ورشة ضخمة. من تهدم بيته تسلم مبلغاً يعينه على الاستئجار أو شراء بعض الأثاث، ومن تصدع بيته، لم يزل على لائحة الانتظار. أتى موظّفون من مجلس الجنوب، وسجّلوا. «لكن الأضرار كثيرة، أتوا، فحصوا، كشفوا، سجلوا كل شيء، لا بيوت واقفة، ما لم يقع تخلخل، دفعوا للبيوت التي وقعت، ونحن لم يدفعوا لنا حتى اليوم»، يقول الحاج أحمد نجدة (79عاماً) الذي يقطن قرب الجامع في وسط البلدة. ويضيف: «السراج والشمعة بدل الكهرباء، المياه تؤمن من البلدية للشرب، وثمن النقلة للاستخدام خمسة عشر ألف ليرة. الحالة الله يهوّنها».
قامت شركة فرنسية بوضع «عيون» ثابتة في عدد من أحياء صريفا، هي كناية عن خزان مطاطي مربوط بشبكة من حنفيات، تزود بالمياه العذبة، استقطبت اهتمام الأطفال، نظراً لندرتها، فلا يشربون إلا منها، أو لا يملأون إلا من حنفياتها.
«صريفا كانت شبه مدينة، مكتفية بمحالها ومؤسساتها وناسها، إلى أن ضربها العدو ولم يسلم فيها شيء، من الأحياء إلى الأموات في جبانة البلدة، وشبكات المياه والهاتف والكهرباء، لذلك تحتاج إلى سنوات حتى تسترجع نمط حياتها الطبيعي»، بحسب علي الهقّ الذي يمتلك محلاً لبيع الألبسة النسائية. ويؤكد علي: «ما سلم من القصف لم يسلم من الغبار والأتربة، وبالتالي فهو غير صالح للبيع. وعلمنا أن التعويض لم يغطِّ بضائع المحلات، يعني أننا خسرنا بيوتنا وكذلك مصادر رزقنا».
نمط الركود والروتين، ما بعد الحرب يخيم على ما عداه في صريفا. انصرف البعض لشراء الخردة، أو لاستخراج الحديد من الإسمنت المدمر؛ البعض ينتظر عند عتبات البيوت المتضررة، بعثات أو ورش الكشف والإحصاء والتخمين. من يقصد البلدية يحصل على حصة غذائية «ومن تمنعه نفسه من هذه المهمة الصعبة، فلا أحد يقصده أو يسأل ماذا يحتاج»، يقول المدرس نبيل محمد رمضان الذي لفت إلى أن أبناء صريفا يراوح عددهم بين 15 ألفاً و20 ألف مواطن، يعتاشون من زراعة التبغ أو الزراعة الموسمية، أو الوظيفة والجيش وقوى الأمن الداخلي، والمهاجرون قلائل.
و«إذا ضربت المواسم والزراعة وكذلك البيوت، فلم يعد للبعض إلا الوظيفة، وهذه لن تفي معيشة جميع أبناء البلدة. لذلك، مهما بلغ التعويض فلن يسد رمق العيش في صريفا، ولن يعيد البيوت إلى سابق عهدها».
تسبب القتل المتعمد الذي مارسته طائرات العدو على بلدة صريفا بسقوط ما لا يقل عن 39 شهيداً منهم 25 سقطوا في دقائق معدودات عندما أغارت الطائرات ليل الأربعاء بتاريخ 19 تموز المنصرم، وظلوا تحت الأنقاض شهراً كاملاً، وهناك بين ست أو سبع ضحايا من آل نور الدين لم يعرف مصيرهم تحت أنقاض الأبنية في محلة الرويس في الضاحية الجنوبية.
وبرغم كل ما حصل في هذه البلدة المنكوبة، لم ير أهلها وجهاً من وجوه الدولة يسأل عن أحوالهم أو يواسي بعد التشييع. ومع ذلك، يتوقعون مع بدء المواسم الانتخابية المقبلة «أن تعج طرقات البلدة بالمرشحين، الذي سيقفون على أطلال المجازر والبيوت، من دون شك».