بنت جبيل ــ داني الأمين
كثيرة هي القصص التي تروى عن فجائع الحرب ونيران الحقد الإسرائيلية. ففي كل بيت من قرى الجنوب قصة، وإن اختلفت المأساة أو تفاوتت من بيت إلى آخر. ولـ«أبو نعيم» قصة لها فجائيتعها الخاصة، وألمها الخاص.
ابراهيم بزي (أبو نعيم) الذي تجاوز التسعين، هو البقية الباقية من عمالقة الجيل السابق في بنت جبيل الذين تميّزوا ببلاغتهم وأدبهم ووطنيّتهم ورهافة حسّهم.
لم يترك أبو نعيم منزله أثناء الاحتلال الإسرائيلي على مدى عشرين عاماً. بقي وحيداً هو وزوجته يعاندان الاحتلال، يستغلاّن كل دقيقة من سنوات الأسر تلك، في القراءة والمطالعة، إلى أن فكّ الأسر وأشرقت شمس التحرير. فأصبح منزله مزاراً لكل من يريد أن يستنير بحكمته وثقافته الواسعة.
تدخل منزله فيرحّب بك قبل أن تطأ قدمك مدخل الدار. فهو أصبح يعرف كل من يدأب على زيارته.
زوجته أم نعيم أصبحت تعرف زائريه أيضاً، رغم كبر سنّها، فتبادلهم الحديث والهموم، ساعية قدر الإمكان إلى تقديم لوازم الضيافة، ومستعينة ــ بعدما دهمــــــها المرض أخــــــيراً ــ بالخادمة السريلنكية وبابنتـــــها الـــــتي تحاول ألا تغيب عن منزل أبويها، رغم التزاماتها المتعلقة بخدمة زوجها وأولادها.
أبو نعيم وزوجته بقيا وحيدين أيضاً مع «السريلنكية» أثناء الحرب الأخيرة، تحت نيران القصف الإسرائيلي الذي تسلل الى غالبية بيوت بنت جبيل، ولم يترك منزل «أبو نعيم» سالماً، بل استهدفه أكثر من مرة. وعلى الرغم من الدمار الهائل، لم يصب أبو نعيم ولا زوجته.
لكنّ المرض والخوف تسبّبا بوفاة أم نعيم في وقت لم يكن فيه باستطاعة أحد أن ينقذ أحداً. حاول أبو نعيم الحفاظ على هدوئه، فبقي قرب زوجته يخفّف من قلقها وألمها، لكن من دون جدوى.
توفّيت أم نعيم، لكنّ «أبو نعيم» بقي قربها يحاول حمايتها من الحيوانات الجائعة الهائمة.
لم يعرف أحد ما جرى لأبي نعيم إلا يوم «الهدنة» حين رآه من رآه على إحدى شاشات التلفزة، كمن يرى أباً أو جداً أو إماماً خارجاً من ظلمة نهار أسود، لا يعرف سوادها إلا من عايشها وتحسّس عتمتها التي استبدلت سكون الليل بأصوات القنابل وصراخ النساء والاطفال من تحت ركام المدينة القديمة.