بعلبك ـــ عبادة كسر
تيمّن البعلبكيون بأسماء آلهة كتبت تاريخاً من قلعتهم، يسقطونها على مؤسساتهم وأعمالهم وحتى على أسمائهم، لما تعني لهم من ديمومة طالما بقيت على مر الدهور.
فينوس «إله الحب» أراده خالد العصيدة اسماً له لتسود الإلفة والمحبة بين أبناء هذه المدينة عندما يقصدون «كشكه» لبيع الصحف والجرائد. فيسمعون كلاماً منمّقاً بينهم: «صباح الخير، صباح الورد، كيف العيال، الله يلعن أبو الحرب، بيعدتنا كل واحد بمطرح». إنّها مصطلحات ودية تتناثر صباحاً من «قلب» فينوس، بائع الصحف الشهير في مدينة بعلبك.
بدأ فينوس حياته المهنية كبائع للصحف في ساحة البرج في بيروت مذ كان طفلاً عام 1947. استمر في عمله هناك حتى عام 1963 عندما انتقل مع عائلته الى بعلبك، كونها مسقط رأسه، ليستأنف عمله الذي اتّخذ صورة جديدة للاتجار بالصحف من خلال كشك صغير يتوسط السوق التجارية في وسط المدينة. استهوته مهنته في بعلبك، وأصبح كشكه مقصداً لنواب المنطقة وفعّالياتها، وأصحاب الفكر والقلم والطلابالموقع الاستراتيجي الذي اختاره العصيدة أعطاه اسمه الحركيّ أيضاً. فإذا أردت الاستدلال على مكان في وسط المدينة يأتيك الجواب فوراً: «بتروح من حد فينوس...» الذي أصبح معلماً من معالم بعلبك الحديثة.
يبدأ فينوس عمله يومياً عند الساعة السادسة صباحاً. ينتظر وكالة توزيع الصحف، وينتهي عمله عند الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر كل يوم. يقول رامي، المولع بقراءة الصحف اليومية: "ما بعرف إشتري جريدة إلا من عنده". ويبتسم الحاج عبدالله قائلاً: "إذا غاب يوماً عن الساحة نفتقده كثيراً، وننتطره حتى يأتي لنشتري منه الجريدة".
يفتخر فينوس بأنه التقى يوماً ما الشاعر الراحل نزار قباني الذي صحّح له اسمه "فينوس"، وقال له: «غلط تقول فينوس، فالإله اسمه فينيس». نسج خالد العصيدة علاقات جيدة مع الكثير من أصحاب الفكر والقلم، ومنهم كامل مروة، صاحب جريدة الحياة الذي اغتيل فيها، «عندما كنت في بيروت، كان يصطحبني بسيارته من ميناء الخشب إلى ساحة البرج، ولكن ما من حادثة آلمتني أكثر من اغتيال الشهيد جبران تويني الذي كان يزورني في محلي هذا».
لا استراحة أسبوعية عند فينوس. دوامه على مدار سبعة أيام في الأسبوع، صيفاً وشتاء، من شدة ولعه بمهنته. حاول "فينوس" كثيراً مع بلدية بعلبك لتقدم إليه العون لتحسين وتطوير "كشكه" الصغير، ولكن الظروف لم تأت بعد «رغم أنني دفعت كل الضرائب وأنا ملتزم بها، ولكنني أُعفيت منها بعد المشروع الذي قامت به وزارة الأشغال بتوسيع السوق التجارية، لأن الزاوية التي أشغلها مهددة بالإزالة».
يروي فينوس قصة الموت التي عصفت بسوق بعلبك التي تعرضت لقصف عنيف خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على المدينة «كل يوم عند السادسة صباحاً، أفتح أبواب الكشك، وأرش المياه حولي. فجأة داهمني برق عنيف، ظننت للوهلة الأولى أنه البرق الذي يسبق الرعد، لكن تبيّن أنّه برق الصاروخ، فأصبت برشقات من الحصى والحجارة في كل أنحاء جسمي. وضعت يدي على رأسي وهرعت راكضاً الى أقرب مستشفى في بعلبك حيث كنت وحيداً في السوق.. ولكن الحمد لله، الكشك لم يصب بأذى».
يرفض فينوس التحدّث عن الحرب الإسرائيلية على بعلبك. ويفضل أن يخبرنا طرفة صنعها قبل ثلاثة عقود تقريباً، فيقول: «في أحد الأيام، كان بيع الصحف قليلاً جداً، فخطر ببالي أن أنتقل للبيع أمام سينما دنيا. هناك بدأت أصرخ بصوت عال وأقول: يا ناس يا عالم بلش ضرب الكراسي بالمجلس النيابي. وفي تلك اللحظة لم أدرِ كيف انهمرت علّي كراسي الخيزران من التحرّيّة».