الغندورية تنال نصيبها للمرّة الثالثة. أبناؤها الذين لا يقوون على الابتعاد عنها نصبوا خيمهم أمام أطلال منازلهم، في انتظار عملية إعادة البناء التي تبدو طويلة وشاقّة كامل جابر

كيف لأبناء الغندورية أن يدملوا الجراح ويستعيدوا البناء، بعدما كوتهم آلة الحرب الإسرائيلية، للمرة الثالثة في أقل من عقود ثلاثة. فنالت قريتهم حصتها في كل عدوان، ولم يوفّر الدمار حتّى قبور الموتى والشهداء.
هي نكبة التدمير التي ألقت تبعاتها على القرية المتواضعة، تواضع أهلها، في عام 1978، بعد مجزرة بحق أهلها الصامدين. وعمد بعدها العدو إلى جرف القرية بالكامل وقذف حجارة بيوتها إلى الوادي القريب، ثم تدميرها ثانية في اجتياح عام 1982. وها هو في العدوان الأخير يغير على بيوتها فيدمر معظمها، لينفّذ بعدها محاولة إنزال فاشلة، كبّدته خسائر جسيمة.
«لا يوجد منزل صالح للسكن في الغندورية، فقد طاول التدمير نحو 80 بالمئة من بيوتها الـ170»، يقول الحاج علي غانم الذي يروي حكاية العدوان التدميري على القرية، ويضيف: «قبل عملية الإنزال بيومين، أغارت طائرات العدو على منازل الغندورية، منزلاً إثر منزل، حتى دمرت معظم البيوت. ونفّذوا إنزالاً بعدها قرب عين «تنية»، وحاولوا التقدم نحو الجهة الغربية، فكان شباب المقاومة في انتظارهم، ودارت اشتباكات بينهم وبين المقاومين من الساعة الواحدة فجراً حتى قرابة الرابعة. وعندما عدنا إلى بيوتنا وجدنا بعضها ساحات مخضّبة بدماء جنود العدو، الدماء كانت تغطي الأرض كأن شاة ذُبحتلم يسلم بيت من بيوت الغندورية. فالذي لم تدمره الطائرات، قصفته المدفعية أو أحرقته وتركته غير صالح للسكن. ومع الدمار، لم تبقَ شجرة أو حقل تبغ. حتى المقبرة، نبشت القذائف أضرحتها وحولتها إلى حرث، وكذلك قُصف مسجداها.
تسعة شهداء للمقاومة، سقطوا دفاعاً عن الغندورية، منهم أربعة من أبنائها، هم: فادي احمد عباس وشقيقه شادي، حسن عبد مرعي، وعماد حسين قدوح. وكيلا يبقى أبناء القرية بعيدين عن بيوتهم، حتى المدمرة منها، نصبوا خيمــاً أمامها أو عند أطرافها. سكنوها، وراحوا يبحثون بين الركام عما يمكن إنقاذه من دفاتر الذكريات وصورها، ومن بعض الأغراض الشخصية والخاصة.
أكثر ما يريده أبناء الغندورية «هو العجلة في موضوع الإعمار. على الدولة أن تساعدنا، لأننا لم نستغن عنها يوماً، لكن، لماذا تعاملنا هي بهـــــذا الجفاء؟ وعـــــلى الرغــــــم من كل ما يصيبنا، لا نرى أحداً من قبلها يأتي ويسأل ماذا حلّ بنا»، بحسب غانم.
قرب المقبرة التي ضاعت منها شواهد شهداء مجزرة عام 1978، وكذلك قبور ضحايا الاعتداءات المتكررة والموتى، ينظّم الجيش اللبناني عملية المرور، ويرشدون زائري المنطقة إلى وجهات انتقالهم، عند مثلث الغندورية، صريفا، القنطرة. في تلك الأثناء، يحمل الفتى جعفر عاصم غندور (13عاماً) على ظهره ما أُنقذ من ألبسة وبعض دفاتر المدرسة. ينقل هذه البقايا المنتشلة إلى خيمة قريبة، مردّداً «كان بيتنا سبع غرف، لم يبق منها إلا بعـــــض الزوايـــــا».
في الغندورية، كما في جارتها فرون من ناحيتها الشمالية، انتشرت الخيم إلى جوانب دمار البيوت، فباتت هي المرشد إلى هذه الأطلال، وإلى أصحابها. يحتاج الأمر إلى ورشة كبيرة لإزالة الردم تمهيداً لعملية بناء لا يراها أصحاب البيوت في المدى المنظور، خصوصاً أنّ عملية مسح الأضرار تسير بوتيرة «السلحفاة»، الأمر الذي ينذر بـ«عهد» آخر من الانتظار!