منذ خمس سنوات، بدأت في مدينة النجف في العراق عملية توسيع المطار، ومعها بدأت الحفريات الأثرية هناك أيضاً. قد تكون العملية الأولى روتينية، لكن الثانية لم تكن عادية. فالاكتشافات التي أتت لتبرز تاريخ المدينة قبل الإسلام، كشفت النقاب عن المدينة التي توجد فيها أقدم كنائس في العالم. فقد عثر العلماء على أثر كنيسة ودير وآثار أخرى «ربما» تعود لمئذنة الحيرة، عاصمة بني لخم، القبيلة العربية المسيحية الشهيرة. «هذا أقدم أثر مسيحي في العراق»، يقول عالم الآثار العراقي علي الفتلي، مشيراً إلى الزخارف التي تزين جدران الدير. ويقول إن هذه الكنائس قد تعود إلى مملكة الحيرة المسيحية التي وثّقتها المصادر التاريخية، والتي لم يعثر عليها يوماً علماء الآثار. ويقع الموقع الأثري ضمن المطار الذي جاءت عملية توسيعه لتلبّي الحاجة إلى توافد الحجاج بأعداد كبيرة. وقد نقلت القطع الأثرية الكبيرة والصلبان الحجرية التي عثر عليها هناك إلى متحف بغداد.
وبحسب التقليد الكنسي، دخلت المسيحية إلى العراق مع الرسول توما، ويشير المؤرخون إلى أن تأسيس الحيرة كان حوالى عام 270 للميلاد، وأصبحت مملكة الحيرة من أبرز الممالك العربية قبل ظهور الإسلام، وهي، بحسب بعض الخبراء، مهد الحرف العربي. وتقع الحيرة على بعد 160 كلم جنوبي بغداد. وعندما هجرت المدينة، غطّت كثبان الصحراء مبانيها. وهنا، يقول البروفسور أريكا هنتر، وهو المتخصص في القرون الأولى للمسيحية في معهد لندن للدراسات المشرقية والأفريقية، «تذكر المصادر التاريخية أنه في بدايات القرن الثاني، كان الدين المسيحي مترسّخ في ما يسمّى اليوم جنوب العراق، أي منطقة مملكة الحيرة التي كانت تحكمها سلالة الملوك المناذرة اللخميين».
لقرون، كانت الحيرة مركزاً مهماً في الكنيسة المشرقية، التي تعرف باسم الكنيسة النسطورية، وحالياً باسم الكنيسة الآشورية في العراق. يجري البحث عن الحيرة منذ عام 1900، لكن الأدلة المكتشفة لم تكن كافية. والبروفسور هنتر هو من العلماء القلائل الذين درسوا مواقع مرتبطة بالحيرة وبنقوش سريانية عثر عليها في ثمانينيات القرن الماضي علماء آثار يابانيون. آثار الحيرة الأخرى تشمل كنيستين نقّب فريق من جامعة أوكسفورد في موقعهما عام 1934، ومواقع تعود لكنائس أخرى عيّنها علماء آثار ألمان على الخريطة قبل حرب الخليج عام 1991 التي أوقفت كل أعمال التنقيب. يتعامل هنتر بحذر إزاء مزاعم اكتشاف موقع الحيرة، لكنه يؤكد أن «الموقع قديم وقد يعود إلى القرن الرابع الميلادي». ما هو واضح أن المسيحية في الحيرة استمرت بالازدهار جنباً إلى جنب مع الإسلام على الأقل حتى القرن الحادي عشر، وتتحدث المصادر الإسلامية عن أربعين ديراً منتشرة في منطقة الحيرة. فهل هذه المملكة المسيحية هي حقيقة في أرض النجف؟ وحدها الأبحاث والحفريات تؤكد أو تنفي ذلك، ولكن المؤكد أن المسيحية هي اليوم إلى تضاؤل كبير في العراق.