أصبح قاضياً سابقاً. ما عاد له محكمة ولا قوس ولا مطرقة. لم يتقاعد. لكن الهيئة القضائية العليا للتأديب صرفته من الخدمة. القرار مبرم ولا مكان لاستئناف جديد. عرفات شمس الدين خارج القضاء. لم تشفع له سنوات الخدمة العشر، التي، بحسب عارفيه، كان خلالها «عالي الهمّة». إنه قاض آخر يسقط بالضربة القاضية، بعد نحو شهر على سقوط غسّان رباح، مع اختلاف الدرجات بين القاضيين.
قضية رباح كانت مالية، ذات منفعة شخصية، وذلك بحسب «التفتيش» و«التأديب». قضيته كانت درساً لكل قاض. طبعاً هو لديه دفاعه عن نفسه، وربما يكون فيه ما يستحق التدقيق، لكن في نهاية الأمر هكذا صدر القرار و«حكمت المحكمة». أما عرفات شمس الدين... فحكاية أخرى. درس آخر. القاضي الشاب سقط في السياسة. ربما أراد أن يكون ملكياً أكثر من الملك. أعطى «حركة أمل» تلقائياً، ما رأى أنه يصب في صالحه. هو حركي الهوى، إبن الجنوب وصور، مدينة موسى الصدر، عنوانه.
في الانتخابات البلدية الأخيرة، ترشّح أحد الأشخاص من ذوي السوابق الجرمية لخوض هذه الانتخابات في مدينة صور. كان من خارج اللائحة المدعومة من «أمل»، لكنه بترشحه هذا فرض على المدينة معركة انتخابية، ليست في حجم الأصوات طبعاً، بل في مبدأ حصول الانتخابات من أصلها، إذ من دونه كانت لائحة «أمل» تسير نحو الفوز بالتزكية. القاضي شمس الدين، آنذاك، كان قد أصدر حكماً قضائياً بحق هذا الشخص، في جرم لا يعدّ من الجرائم المانعة من حق الترشّح. وجد القاضي أن حصول الانتخابات يعني «وجعة رأس» للمدينة. يقال إن الجهات السياسية استسلمت للأمر الواقع، على مضض، وبدأت تجري حساباتها وفقاً لذلك. هنا خطرت في ذهن القاضي فكرة، أراد بها تجنيب المدينة معركة انتخابية، بغية المحافظة على الهدوء، فاستعاد الحكم الذي أصدره بحق ذاك الشخص، المرشح، وعدّل فيه ليصبح النصّ متعلّقاً بجريمة مانعة من خوص الانتخابات. بمعنى آخر، لقد ضخّم الفعل الجرمي في النص، وبالتالي أسقط حق الترشّح عن المحكوم عليه، وهكذا فازت اللائحة المدعومة من الحركة بالتزكية. في حين اتُّهم القاضي بـ«تزوير الحكم».
على هذا النحو سارت هيئة التفتيش القضائي بتحقيقاتها، وعلى هذا تبعها المجلس التأديبي بقراره، قبل أن يستأنف الأخير، لتعود الهيئة العليا للتأديب، بعد نحو عام، وتثبّت قرار الصرف النهائي من الخدمة.
بالتأكيد، للقاضي رواية أخرى، وتفاصيل كثيرة تُروى، منها أنه دافع عن نفسه بالقول إن من يُصدر الحكم لا يمكنه أن يُزوّره، فالمسألة في اللفظ مرفوضة، بل «ما حصل هو تعديل في نص الحكم». يعز عليه اليوم كيف يُصرف من القضاء، بسبب شخص من أصحاب السوابق الجرمية، والذي كان القاضي بفعلته «يريح المجتمع منه». كل هذا الكلام لم يقبله القضاء في هيئة التفتيش وكذلك قضاة التأديب لاحقاً.
بعد صدور القرار النهائي، راح القضاة، من الذين عرفوا شمس الدين وممن لم يعرفوه، يتحدثون عمّا حصل. ومثل العادة، يتعاطون مع القاضي الذي «سقط» من بينهم كأنه البقرة التي وقعت، فيُغلظون الذبح بها، وهم يعلمون، كما يعلم سواهم من خارج بيئتهم حتى، أن «العفن» الضارب في الجسم القضائي لا يتوقف عند قاض أو قاضيين أو عشرة أو مئة. تجدهم في أحاديثهم يجلدون أنفسهم، في اللاوعي، من خلال جلدهم للقاضي المطرود من بيئتهم. هذا القاضي «لم يلعب صح» فوقع. لكن ماذا عن الذين أتقنوا اللعب وما زالوا واقفين؟ البعض تحدّث عن عدم ملاءمة العقوبة القاسية مع الجرم المنسوب للقاضي. يقال إنه كان يمكن أن يعاقب بخفض الدرجات، مثلاً، على غرار القاضي الذي عوقب بذلك قبل نحو شهر بسبب تورّطه في قضية سمسرة. لماذا هنا صرف من الخدمة وهناك خفض درجات؟ وعلى أي قاعدة تُحدد طبيعة العقوبة؟ لا أحد يُشكك بما لدى القضاة في التفتيش والتأديب من خبرة وفقه، لكن هذا سؤال يطرحه اليوم كثيرون. الإجابة عنه تصبح ضرورية، اليوم تحديداً، مع كثرة الكلام عن التدخلات السياسية وغير السياسية، من زعماء ونافذين، لمصلحة هذا القاضي أو ذاك.
طبعاً، لا يتوقع من القاضي شمس الدين سوى إنكار التهمة الموجهة إليه. أليس كل سجين في رومية يؤكد أنه بريء، وأنهم «ظلموه»؟ يمكن القياس على ذلك في كل شيء، مع ترك هامش دائماً لاحتمال وقع الظلم، لأنه في المقابل أيضاً «ياما في الحبس مظاليم». أحد القضاة، ممن عرفوا بأمر صرف القاضي، سأل بمجرد سماعه الخبر، بعفوية تنم عن اعتياد الفكرة: «أين هي الجهة السياسية التي كان مقرباً منها؟ لماذا لم تسانده في هذه القضية؟ كيف يقبلون أن يقدم لهم خدمة، على فرض حصولها، ثم عندما يقع يتخلون عنه؟ لماذا يفعل قضاة، من الذين يصنفون كباراً، أكثر مما فعل بألف مرة، وفي قضايا سياسية محض تتخطى كل أعراف القانون والعدالة، ثم لا يحاسبهم أحد... أهكذا صار يؤكل القاضي لحماً ثم يرمى عظماً؟».
سيل من الأسئلة يوجهه القاضي الزميل، الذي ربما يجد في ما حصل «إنذاراً» لكل القضاة. هؤلاء، أو كثير منهم، الذين ما كانوا ليتسلموا مراكزهم لولا ورود اسمائهم في لوائح التشكيلات، التي درجت الأحزاب السياسية، منذ زمن بعيد، على إرسالها إلى وزراء العدل والقائمين على مجلس القضاء الأعلى لتعيينهم؟ بدا هذا القاضي كمن يرى أن «الأصل هو التدخل السياسي، فيما بقاء قاض بلا سند حزبي هو الاستثناء». الجملة الأخيرة تلخص كل المشهد. تلخص الكتاب الذي يقرأ منه قضاة لبنان، أو لنقل، دائماً، أكثرهم لا كلّهم.
لا بد من الإشارة إلى أن «حركة أمل»، كجهة سياسية مقرّب منها القاضي، حاولت التوسّط، ولو ليس كما يتوقع، من أجل شمس الدين. بيد أن رئيس الحركة، نبيه بري، لا يبدو أنه كان متحمساً للدخول بثقله في هذه القضية، ففضل ترك الأمر برمته لكلمة القضاء. بهذه البساطة؟ بعض المعنيين بالقضية يؤكدون أن بري «وهو محام أصلاً، ويعرف طبيعة القضاء جيداً، لم يرد أن يكون في سجلّه تدخّل في قضية خاسرة، أو بمعنى آخر قضية لا تتناسب وصورته في الحياة السياسية التي يريدها لنفسه وحركته». هنا، من حيث المبدأ، يُسجل لبري أنه لم يتدخل جدياً لإنقاذ القاضي، وإن كان الأخير وقع في خدمة لا يمكن للحركة نفي استفادتها منها.
مسؤول في وزارة العدل يؤكد لـ«الأخبار» أنه ثمة جواً بين القضاة، بعد صدور القرار المذكور، يشي بشيء من الخوف. الخوف من أن تتخلى عنهم الجهات السياسية التي لطالما رعتهم، والحديث دائماً عن قسم كبير من القضاة، بعدما تبيّن لهم، والتجربة أمامهم، أن «رجل السياسة يمكن أن يبيعك في لحظة على طريق مصالحه». هذه العبارة لقاض، في العمل اليوم، ممن باتوا معروفين بعدم وجود جهة سياسية خلفه. لا يمكن فهم ما حصل مع شمس الدين، إلا كدرس للقضاة... على أمل أن يكون هو قد أخذ القضية في ظهره، موعظة، أو ربما فداءً، لتأكيد مبدأ، هو في لبنان أقرب إلى السريالية... الحديث عن: فصل السلطات واستقلالية القضاء.



عدلية «الأمراض السرطانية»

تسأل وزير العدل، شكيب قرطباوي، عن أبرز مشكلة يعانيها القضاء في لبنان اليوم؟ فيجيب: «تدخّل أهل السياسة في القضاء.. واستعداد بعض القضاة لهذا التدخل». المعادلة إذاً تفترض وجود الطرفين، إذ يقول البعض إنه لا يمكن لوم السياسي على تدخّله، كما لا يتوقع منه أن يسمح لسلطة غير سلطته بتعاظم النفوذ، إلا مع لوم القضاة أنفسهم الذين يقبلون بهذا. القضاة الذين اعتادوا في لبنان، مع كل تشكيلات قضائية، أو كل مناسبة فيها رائحة منصب، أن يحجّوا إلى دارات الزعماء والسياسيين. ثمة كلمة لرئيس مجلس شورى الدولة، القاضي شكري صادر، ربما تلخّص هذه الحالة. يصف صادر ما يقوم بعض القضاة من مراجعات سياسية للوصول إلى مواقع ومراكز بـ«الأمراض السرطانية». ويضيف: «لا أتصور أن لدى السياسيين نية لإعادة إعمار العدلية، تحسباً واستباقاً لإعادة بناء دولة القانون. أتصور أن العدلية لا يمكن أن تقوم من جديد إلا من خلال قانون يقول للبعض: لقد قمت بعملك.. شكراً لك... إذهب إلى بيتك. هذا الذي يجب أن يحصل لإعطاء الأمل للقضاة الصالحين».