الزجاج، هذه المادة الأولية في حياتنا اليومية، كانت في الماضي من أهم الكماليات وأكثرها. اكتُشف الزجاج قبل 5000 سنة في مصر، لكن مدن الشاطئ اللبناني اشتهرت بصناعته وتطويره، ليصبح من أعمدة التجارة عبر المتوسط للفينيقيين. هذا ما أكده الدكتور دايفيد وايتهوس، المختص بتاريخ الزجاج، ومدير متحف كونيغي للزجاج في الولايات المتحدة. يقول وايتهوس: «ظهر الزجاج في الألف الرابع ق.م في منطقة الشرق الأوسط عندما اكتشف الإنسان أن مزج رمال البحار والكلس والملح على درجة حرارة عالية تنتج منه عجينة الزجاج. وكانت هذه المادة الصلبة من مكونات التجارة عند الكنعانيين (3500 ـــــ 1200 ق.م.)، فكانوا يصدرونها كمادة أولية. وبدأت عملية النحت الدقيق في الزجاح عندما اكتشف الإنسان القديم مبدأ القالب، فكان ينحت كل التفاصيل والأشكال التي يريدها في الشمع، ثم يجوفه ويضع بداخله الزجاج الذائب فيدخل في كل التفاصيل ويأخذ شكلها، وحينما يبرد يكسر القالب وتبقى القطعة الفريدة والوحيدة؛ لأن القالب يستعمل مرة واحدة. بهذه التقنية توصل الحرفيون الكنعانيون إلى إنتاج قطع زجاجية صغيرة في منتهى الدقة، لكنها كانت تفتقر إلى الشفافية التي لم تكن معروفة بعد. وازدهرت صناعة الزجاج حتى دمار المدن الكنعانية سنة 1200 ق.م.، لكن سرعان ما عادت صناعة الزجاج إلى الواجهة.دخلت في صناعة الزجاج أنماط زخرفية جديدة، بالإضافة إلى استعمال مجموعة واسعة من الألوان. كذلك اكتشف الزجاج الشفاف والزجاج المنفوخ. ومن غير المعلوم كيف ظهرت هذه التقنية، لكن من المؤكد أنها ظهرت في فينيقيا، وعلى الأرجح في مدينة صيدا التي يصفها المؤرخ الروماني الشهير بلينوس القديم بأنها «مدينة الزجاج ومهد المرايا وزجاج الشبابيك». وأتاحت هذه الطريقة تسريع الإنتاج ورفع أعداد القطع المنتجة يومياً، فتحول مبدأ استعمال القطع الزجاجية من رفاهية مطلقة لا يقدر عليها إلا الملوك وكبار الأغنياء إلى قطع منتشرة في المنازل ولم تعد حكراً على أحد.
وفي العصر الروماني، باتت المدن الفينيقية المصدر الأول للزجاج في الإمبراطورية. ويقول وايتهوس إنه عُثر على قطع زجاجية كتب عليها «صنعها إنيون» الذي قد يكون اسم مصنع أو حرفي مركزه في الصرفند. وتكاثر الطلب على الأواني الزجاجية. وفي الفترة البيزنطية استمرت وتيرة الصناعة وبدأت القطع تلبس رداء الدين الجديد فظهرت الصلبان على القطع الزجاجية وأُنتج قرع للحجاج لنقل الزيت المقدس ومياه الأردن. وفي العصور الإسلامية اشتهرت مصانع صور وبيروت بابتكارها طرق إدخال المعادن كالنحاس على الزجاج للحصول على بريق داخلي. وخلال الفترة الصليبية، استحوذ تجار البندقية على 3000 سنة من الخبرة بين مدن صور وصيدا، وأسسوا مصانع للزجاج في جزيرة مورانو التي ما إن خبا نجم صناعة الزجاج في المشرق في القرن الخامس عشر الميلادي حتى استحوذت على التجارة وباتت هي المصدر الأساسي له.