من على ربوة صغيرة عند أطراف بلدة القصر المحاذية لسوريا، يطالعك مشهد أسراب البط وهي تسبح بحرية وطمأنينة في مياه سد زيتا داخل الأراضي السورية. طمأنينة لم تفرضها تحذيرات وقوانين تحظر الصيد في المنطقة، بل إجراءات تمنع الاقتراب من الحدود السورية ينفذها «الهجانة» (حرس الحدود)، المتمركزون في بضع غرف صغيرة متهالكة منتشرة على طول واجهة السد من ناحية البلدة اللبنانية. شعارات «منحبك» و«جنود الأسد حماة الوطن» تغطي مساحات كبيرة من «خفّان» تلك الغرف.الاقتراب من الحدود ممنوع. والطلقات النارية التحذيرية تلاحق المخالف للأوامر. لكن ذلك لا يحول دون استراق النظر إلى قرى سورية خلف حجارة السد العالي: زيتا وحويك ومطربة والفاضلية وغيرها. أكثر من 15 قرية سورية يطلق عليها اسم قرى حوض العاصي، عاش فيها لبنانيون على مدى أكثر من قرنين، من دون أن تميز الدولة السورية بينهم وبين مواطنيها الأصليين. شملتهم بغالبية الحقوق والخدمات على اختلافها، من صحية وتعليمية إلى حياتية واقتصادية (باستثناء الحقوق السياسية)، حتى إن بعضهم منح الجنسية السورية إلى جانب اللبنانية. على مدى العقود الماضية لم تنغّص صفو حياتهم أي مشاكل مع الدولة السورية وأهلها، حتى في خضم ما سمّي «ثورة الأرز»، ومرحلة انسحاب الجيش السوري من لبنان، والمطالبات بترسيم الحدود. فقد واصلت الدولة السورية تقديم خدماتها إليهم بلا منّة.
اليوم، مع تصاعد الأحداث الأمنية في سوريا، وتعرض بعض أبناء تلك القرى من اللبنانيين للخطف والقتل والسرقة، بدأت هذه القرى تشعر بنوع من «الاستهداف والاضطهاد»، ليس من الدولة السورية، بل من جانب «المجموعات المسلحة المخرّبة أو ما يسمّى الجيش السوري الحر»، كما يؤكد الدكتور جمال زعيتر ابن بلدة حويك لـ«الأخبار».
يلفت زعيتر إلى «أن أعمال العنف والخطف والقتل التي تطال لبنانيين مقيمين في سوريا تتصاعد بوتيرة متسارعة ومتزايدة من جانب عناصر ما يسمّى الجيش السوري الحر، الذي قتل شقيقنا أبو رامي (محمد زعيتر ــــ 51 عاماً) في حي الإنشاءات نهاية تشرين الثاني من العام المنصرم، ليعمدوا منذ أسبوع إلى سرقة المحال التجارية المقفلة وتفجيرها، وتقدر قيمة الخسائر بمليون دولار».
أعمال الخطف والقتل وإحراق محال تجارية وصيدليات ومطاعم يملكها لبنانيون، تزايدت خلال الأسبوعين الماضيين، إذ أشار زعيتر إلى إقدام مجموعة مسلحة على خطف الشاب موفق الحجار من بلدة زيتا، «وحتى اليوم لم يعرف مصيره». كذلك أطلق مسلحون النار على سيارة الشقيقين رياض وفراس قنيار من بلدة الديابية، ما أدى إلى مقتل فراس وجرح شقيقه. عمليات قتل اللبنانيين لم تقف عند هذا الحد، إذ أطلق مسلحون النار، الأسبوع الماضي، على الشاب محمد عابدة من بلدة مطربة، وعلى سيدة من آل عساف، فأردوهما على الفور. وبحسب زعيتر، فإن المجموعات المسلحة لم تكتف بالقتل، بل لجأت أيضاً إلى الخطف، حيث اختطفت منذ أيام قليلة شاباً من آل الحجار وآخر من آل حمادة.
استهداف أشخاص لبنانيين وسوريين في تلك المنطقة وضعه زعيتر في خانة «اختلاق فتنة سنّية ـــ شيعية»، لكنه شدد في المقابل على أن «الوعي» الذي أظهره أهالي القصير وحمص والقرى السورية «أفشل مخططات الفتنة». يدعم قوله هذا بالرسائل التي وصلته من أهالي المنطقة، وتتضمّن «التمنّي علينا الامتناع عن زيارة القصير وحمص خلال هذه الفترة، إلى أن تهدأ الأمور وتعود إلى طبيعتها».

حراسات ليلية ونهارية

بناءً على ذلك، ولمواجهة أعمال القتل والخطف، اتخذ أهالي قرى حوض العاصي خطوات عملية لحماية العائلات، بمؤازرة من الجيش السوري الموجود في نقاط ثابتة. ومن هذه الخطوات «الأمن الذاتي»، حيث يقوم شبان في كل قرية بالحراسة الليلية ـــ النهارية لمواجهة المجموعات المسلحة. ومن الخطوات أيضاً عدم الذهاب نهائياً خلال هذه الفترة إلى حمص والقصير والتنقل منفردين بين القرى، في حين يجري توفير المواد الغذائية للأهالي، بحسب زعيتر، بمساعدة الجيش السوري وقوات حفظ النظام، فضلاً عن أشخاص باستطاعتهم التنقل.
حال القلق والخوف في قرى حوض العاصي، خصوصاً الديابية وغوغران، وهما البلدتان الأقرب إلى مدينة القصير من الجهة الشرقية، دفعت عدداً من العائلات إلى النزوح إلى القرى الحدودية اللبنانية، تاركين خلفهم أرزاقاً ومنازل ومحاصيل زراعية.

«كيف بتستوعبنا الدولة»

حركة العبور عادية عند معبر مطربة. عائلتان من الديابية وزيتا تشقان طريقهما بين عناصر الجيش السوري، فتقطعان قناة المياه الفاصلة. علي الجمل، الرجل السبعيني الذي ترك بلدته زيتا مع عشرين فرداً من أبنائه وأحفاده، بعدما استأجر منزلاً في بلدة القصر بـ500 ألف ليرة، لا يخفي خوفه على أرزاق عائلته وأملاكها فيما لو استمرت الأحداث، خصوصاً أن «الجيش السوري الحر يضيّق الخناق علينا في محاولة لإثارة فتنة». ويتساءل: «يا خال، كيف بدها تستوعبنا الدولة اللبنانية بالعمل والطبابة والتعليم؟ يعني فيك تقول خسرنا كل شي!».
النزوح الحاصل من بعض قرى حوض العاصي «جزئي»، ويعزوه الرجل إلى أعمال العنف التي ترتكب، والوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي، إذ «لا عمل عند الجميع، سواء في التجارة أو المهن الحرة، ولا حتى في الزراعة، لأنك ما فيك توفر أسمدة أو ري أو التنقل بأرضك بحرية». أما عن حركة النزوح من حمص والقصير فأكد الجمل أنها «كاملة»، إذ «لم يبق هناك أحد، بسبب الأحداث والخوف».
حركة العائلات اللبنانية النازحة إلى قرى قضاء الهرمل ترتفع وتيرتها بحسب الأحداث، على حدّ قول رائد جعفر، عضو بلدية القصر الذي أكد عدم وجود إحصائية دقيقة لعدد العائلات النازحة. لكنه أوضح أن أغلبية العائلات النازحة هي ممن فيها أطفال في التعليم الأساسي، فهؤلاء يتسنى لهم إدخال أولادهم الى مدارس قضاء الهرمل لمتابعة سنتهم الدراسية، أما الطلاب الثانويون والجامعيون، «فلم ينزحوا مع أهلهم، مفضّلين البقاء إلى جانب أبناء القرية للتكاتف والتضامن والذود بعضهم عن بعض عند أي اعتداء» يقول جعفر.